لم يجد عساكر السودان وميليشياته حلا للمعضلات التي تواجه بلدهم غير توجيه مدافعهم إلى صدور مواطنيهم وإلى بعضهم البعض.
الأهم من علاج الأزمة الخانقة التي تعصف باقتصاد السودان ومن بقائه في صدارة الدول الأفقر في العالم والأكثر تعرضا لتبعات التغير المناخي، في نظر رئيس المجلس الانتقالي قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، وقائد "قوات الدعم السريع" محمد حمدان دقلو، الأهم هو أي منهما سيجلس على عرش من دم ورماد البلد وسكانه؟
وفي حال فاز البرهان في هذه المذبحة أو تغلب عليه دقلو، أو توصل الاثنان إلى تسوية تتيح لهما تقاسم السلطة، فما الذي سيقدمه الواحد منهما أو كلاهما، للسودانيين؟ أي برنامج تنموي؟ أية خريطة طريق لتطويق الانهيار الاقتصادي المتفاقم؟ أية خطة لمعالجة البطالة والفقر والجوع وتخفيض عدد القابعين تحت خط الفقر؟ لا شيء.
هي السلطة من أجل السلطة، ولو على ركام بلد تحمّل من الحروب والصراعات والمغامرات السياسية الكثير منذ استقلاله. فيذهب الضابط المهووس بالقوة وسفك الدماء ليأتي أسوأ منه، في دورة لا تنتهي من الهبوط إلى قيعان العبث واللاجدوى.
أنهت الحرب الحالية كل أمل في الانتقال إلى حكم مدني، بعدما اتفق الجيش و"الدعم السريع" على ضرب المحاولة الديمقراطية في انقلاب أكتوبر/تشرين الأول 2021. وجاءت جولة الاقتتال الحالية لتُسقط أي قناع عن ادعاءات العسكريين والميليشيات بالانخراط في العملية السياسية للخروج من الأزمة التي اصطنعها حكم عمر البشير، وهو عسكري مغامر آخر، تورط مع أنصاره الإسلاميين السودان في متاهات ما زالت البلاد تعاني منها.
في حال فاز البرهان في هذه المذبحة أو تغلب عليه دقلو، أو توصل الاثنان إلى تسوية تتيح لهما تقاسم السلطة، فما الذي سيقدمه الواحد منهما أو كلاهما، للسودانيين؟
الحرب هي الطبيعة الكامنة لكل الأنظمة العسكرية. هكذا يقال. وهكذا عاش السودان منذ عقود. من الحرب في الجنوب التي انتهت إلى التقسيم ومرورا بالحروب في دارفور مرتع دقلو وأتباعه من الجنجويد الذين حوّلهم البشير إلى قوة شبه عسكرية بعدما أبلوا البلاء الرهيب في مجازر دارفور، والهدف من تلك القوة إنشاء توازن مع الجيش الذي خشي الجنرال المتأسلم (البشير) من يبادر إلى الإطاحة به كما فعل هو ضد الحكومة المنتخبة ديمقراطيا التي سبقته والتي لم تعمّر طويلا.
مسلسل من الغدر والانقلابات والتصفيات يجمع "أبطال" الحرب الحالية "رفاق السلاح"، في سبيل الوصول إلى سلطة ليست أكثر من غنيمة في يد القابض عليها، من دون أي اعتبار لمصلحة الأكثرية الرازحة تحت ظل مستقبل كالح السواد ومسدود الأفق.
يصف دقلو خصمه "بالإسلامي المتطرف" موحيا بأنه منحاز إلى القوى المدنية المعارضة للحكم العسكري. في المقابل تقول بيانات الجيش إن جماعة دقلو "ميليشيات متمردة" وكأن القوات المسلحة تتمتع بالشرعية بعد انقلابها عام 2021على الحكومة التي ترأسها عبد الله حمدوك. والحال أن "الإسلامي المتطرف" المستعين بأنصار البشير السابقين للحفاظ على امتيازات كبار الضباط، مثله مثل زعيم "الميليشيات المتمردة"، تشاركا في وأد آمال السودانيين في كسر حلقة العنف والانقلابات والحروب الأهلية.
وها هما، البرهان ودقلو، يشرعان الأبواب لاندلاع سلسلة لا نهاية لها من الحروب الأهلية وتفكيك ما تبقى من السودان على أسس جهوية وقبلية وطائفية، في نكوص كامل عن كل ما سعى ملايين السودانيين إلى تحقيقه، منذ 2019 على الأقل.
ولعلها مصيبة لا براء منها، هي هذه الانقلابات واللجوء السريع إلى العنف والركون إلى وهم إلغاء الآخرين من خلال استخدام السلاح. ربما تعود الذاكرة إلى رشيد عالي الكيلاني، وحسني الزعيم، اللذين أدخلا آفة الانقلابات إلى العالم العربي. وربما "يسترشد" البرهان ودقلو بزملائهما الضباط في القارة الأفريقية الذين لم يملّوا بعدُ من لعبة الكراسي الموسيقية في انقلاباتهم الدورية على بعضهم البعض.
لكن الأكيد أن الإصرار على خنق كل تطلع إلى بناء دولة قائمة على الشرعية الدستورية يرجع إلى ما هو أبعد من أطماع عسكريين وقادة ميليشيات متعطشين إلى السلطة. ثمة ما ينخر في الاجتماع العربي ليحول دون الاقتناع العام بفضائل حكم يمثل مصالح الفئات الأعرض من المجتمع، بحيث يظهر "الشعب" بالمعنى الحديث للكلمة. ويجد الخروج على الدولة مبرراته دائما في ظلم هذه الأخيرة وإجحافها واستيلاء فريق من "الأهل" عليها وانقلابها آلة للارتزاق والتكسب لقلة قليلة لا تعرف للعدالة والمساواة معنى.
هنا يمكن فهم الجاذبية الدائمة للتمرد و"الخروج"، هذه الكلمة التي استخدمها العرب منذ حروب الفتن الأولى. وهنا أيضا فهم التغني بالعنف وبالسلاح "الخارج" وارتباطه بمعاني السلطة و"الرجولة".
وفجأة تتجلى صلابة الشعار الذي رفعه أكثر من زعيم لبناني أثناء الحروب الأهلية في تجميل "الخروج"، كل لجماعته: "... سيبقى السلاح في أيدينا زينة الرجال".