ثمة ذاكرة قصيرة، أو انتقائية، عند معظم الفلسطينيين إزاء تجربة حركتهم الوطنية التي اتسمت، على الأغلب، بالروح العاطفية والحماسية والرغبوية ونبذ التفكير النقدي وهو ما يترجم بالمبالغة المرضيّة بالذات وعدم مراعاة الفارق بين الإمكانيات والشعارات، أو بين الواقع والطموحات، يأتي ضمن ذلك تقديس السلاح ووضعه خارج المساءلة.
وقد يفيد التدليل على ذلك في عديد من المحطات التاريخية، ربما يكمن أهمها في الآتي:
ـ المبالغة بدور معركة "الكرامة" (الأردن، مارس/آذار 1968)، إذ تصدّى الفدائيون الفلسطينيون (بخاصة من حركة "فتح)"، بمشاركة من الجيش الأردني، لمحاولة الجيش الإسرائيلي اقتحام تلك البلدة، فيما عدّ بمثابة أول انتصار فلسطيني. وفي الواقع فإن ما دفع إلى تلك المبالغة هو وقوع تلك المعركة بعد هزيمة يونيو/ حزيران (1967)، أي في وضع وجدت فيه الأنظمة العربية، حينها، في الكفاح المسلح الفلسطيني ضالتها لتغطية تلك الهزيمة (النكبة الثانية).
في الحقيقة، فإن الانطلاقة الحقيقية للمقاومة الفلسطينية، وتوسعها، حدث بعد تلك المعركة، بما في ذلك هيمنة الفصائل على منظمة التحرير الفلسطينية.
بيد أن هذا الحدث الكبير، بالتضحيات والبطولات التي بذلها الفدائيون (والجيش الأردني) في ذلك الوقت، لا تعفي من رؤية سلسلة الأحداث اللاحقة، وضمنها مشروع روجرز (يونيو 1970)، وقبول مصر عبد الناصر به، ما أفقد الحركة الوطنية الفلسطينية أهم ظهير لها، لخلافها الشديد معه، وبعد ذلك جرت أحداث سبتمر /أيلول 1970، بحيث نجم عن الاشتباكات بين الجيش الأردني والمنظمات الفلسطينية إخراج، أو حرمان، العمل الفدائي نهائيا من الأردن، مع أطول حدود مع إسرائيل، وأكبر تجمع للاجئين الفلسطينيين، ما نجم عنه حصر نشاط المنظمات الفلسطينية المسلحة بلبنان فقط، لتعذر ذلك في سوريا.
مفهوم أن الفلسطينيين يتوقون لأي انتصار، وأن ذلك يستند إلى إيمانهم بحقهم، وروح التضحية عندهم، لكن ذلك يوجب السؤال الموجع في إنه إذا كانت تلك كلها انتصارات فلماذا حال الفلسطينيين في كل هذا البؤس في كافة أماكن وجودهم؟
حماسة الرومانسيين الثوريين
بانتقالها إلى لبنان باتت الحركة الوطنية الفلسطينية بمثابة دولة داخل دولة، ما انعكس عليها سلبا، إذ تمت عسكرة المجتمع الفلسطيني، على حساب كونه مجتمعا مدنيا، وباتت تلك الحركة بمثابة سلطة، مع قوات عسكرية وميلشيات وأجهزة أمنية وخدمية، ما وضعها في مواجهة السلطة اللبنانية، وفي مواجهة قسم كبير من المجتمع اللبناني، وبات لبنان (لا سيما منطقة الجنوب) مع مخيمات الفلسطينيين مرتعا، أو حقل رماية، لمدفعية وطيران إسرائيل، أكثر بكثير مما بات ممرا للعمليات الفدائية، أي أن السلبيات فاقت الإيجابيات، بغض النظر عن حماسة وعواطف الحالمين أو الرومانسيين الثوريين.
وظل هذا الوضع قائما، من دون أية مراجعة، إلى لحظة حرب الصواريخ (10 ـ 24 تموز/يوليو 1981) التي استمرت 14 يوما، إذ طال القصف الإسرائيلي لبنان من شماله إلى جنوبه، وضمنه بيروت، كما شمل المخيمات الفلسطينية وقواعد المقاتلين الفلسطينيين، في حين طال القصف الصاروخي مستوطنات شمالي فلسطين.
وفي حينه (1981) صدر للرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس (أبو مازن، وكان حينها عضوا في اللجنة المركزية لحركة فتح)، كتابا سماه "استثمار الفوز"، تحدث فيه عن قدرة المدفعية الفلسطينية على شل شمالي إسرائيل، وإجبار المستوطنين على المكوث في الملاجئ، وخلق نوع من توازن الردع مع إسرائيل، إلى حد قدوم المبعوث الأميركي فيليب حبيب الذي تمكن من عقد هدنة بيت الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، في ما عد انتصارا، أو فوزا، فلسطينيا، وهي أحداث وخطابات تذكّر بما يحدث الآن.
بعد ذلك اجتاحت إسرائيل لبنان، وحاصرت بيروت (حزيران/يونيو 1982)، بحيث أخرجت قوات منظمة التحرير بالبواخر، بوساطة المبعوث الأمريكي ذاته؛ والمفارقة أن ذلك سُجل انتصار، باعتبار أن إسرائيل لم تستطع أن تنهي منظمة التحرير، في استعارة لنفس خطاب الأنظمة العربية التي "انتصرت" في هزيمة حزيران /يونيو (1967).
أما في التجربة الفلسطينية في الداخل، بعد إقامة السلطة، التي أضحت سلطتين، حيث "فتح" في الضفة و"حماس" في غزة، مع تأكيد أن ذلك ليس إنجازا، كونه لم يتم بفضل الكفاح المسلح في الخارج، الذي انتهى عام 1982، كما قدمنا، إذ حدث ذلك بفضل المتغيرات الدولية والإقليمية في مطلع التسعينيات (انهيار الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج الثانية وهيمنة الولايات المتحدة على النظامين الدولي والإقليمي)، وبسبب ضعف القيادة الفلسطينية، وتلهفها بأي ثمن لإقامة كيان سياسي لها؛ ما يفسر التنازلات المتضمنة في اتفاق أوسلو (1993).
بانتقالها إلى لبنان باتت الحركة الوطنية الفلسطينية بمثابة دولة داخل دولة، ما انعكس عليها سلبا، إذ تمت عسكرة المجتمع الفلسطيني، على حساب كونه مجتمعا مدنيا، وباتت تلك الحركة بمثابة سلطة، مع قوات عسكرية وميلشيات وأجهزة أمنية وخدمية، ما وضعها في مواجهة السلطة اللبنانية
الاستثمار السياسي للانسحاب من غزة
ومن اللافت للنظر هو أن معظم المتحمسين ينسون حماسهم للانتفاضة الشعبية الأولى. بل وينسون أن ذروة المواجهات المسلحة الفلسطينية ـ الإسرائيلية، تمثلت في الانتفاضة الثانية (2000ـ 2005)، التي اتسمت بالعمل المسلح، وغلب عليها نمط العمليات التفجيرية، وقد نجم عنها مصرع حوالي 1040 إسرائيليا (عسكريين ومدنيين)، منهم 452 إسرائيلياً في العام 2002 وحده.
كما ينسون أن إسرائيل بعدها أعادت احتلال المدن الفلسطينية، وقطعت أوصال الضفة بالنقاط الاستيطانية والحواجز والجدار الفاصل، ومنعت الفلسطينيين من دخول القدس (في عمر معين)، وأغلقت "بيت الشرق" الذي كان بمثابة مقر لمنظمة التحرير في القدس. وفرضت الحصار المشدد على غزة، بعد انسحابها منها (2005). وفي المحصلة، فبدل أن تستنزف المقاومة المسلحة إسرائيل استنزفت هي الفلسطينيين، وتمكنت من ضرب البني التحتية للمقاومة، والسيطرة على الوضع الأمني، وتضاعف الاستيطان، وازدادت سيطرة إسرائيل على الضفة الغربية.
وفي ما يخص انسحاب إسرائيل الأحادي من غزة، والذي يمكن أن يحتسب كهزيمة لها، بمعنى ما، فإن التدقيق في استثماراته السياسية الإستراتيجية، من قبل إسرائيل، يكبح جماح أي شعور بالنصر عند الفلسطينيين، إذ أن إسرائيل انسحبت من واحد في المئة من أرض فلسطين التاريخية (360 كم2) فقط، ومن 6 بالمئة من مساحة الأراضي المحتلة عام 1967، ولكنها تخلصت من عبء السيطرة على مليوني فلسطيني، في منطقة تعتبر من أكثر مناطق العالم اكتظاظا بالسكان، وتفتقر للموارد الطبيعية.
الأهم من هذا كله أن إسرائيل تخلصت في انسحابها هذا من عبء قطاع غزة، الديمغرافي والسياسي والأمني والاقتصادي والأخلاقي، في مراوغة تحسّن فيها مكانتها وصورتها، وتساهم من خلالها في حماية طابعها كدولة يهودية.
المعنى أن إسرائيل انسحبت من غزة بسبب مصالحها، وبسبب صمود الشعب الفلسطيني، وليس تحت ضغط عملية تحريرية مسلحة، إذ سقط في قطاع غزة، منذ احتلاله والانسحاب منه (1967ـ 2005)، في 38 عاما، 230 إسرائيليا، بين مستوطنين وجنود، منهم 124 لقوا مصرعهم في السنوات الخمس للانتفاضة الثانية، من أصل 1040. (هآرتس 23/8/2005).
ويستنتج من ذلك أن الخسائر البشرية ليست وحدها التي حفزت إسرائيل على الانسحاب من القطاع، كما قدمنا، إذ الأوْلى لإسرائيل الانسحاب من الضفة، التي خسرت فيها حوالي 900 من الإسرائيليين خلال فترة الانتفاضة الثانية.
أما عن الانتصارات في الحروب التي شنّتها إسرائيل على غزة منذ العام 2008، لكونها لم تستطع إضعاف "حماس"، فقد ذهب ضحية الحرب الأولى (أواخر 2008)، واستمرت 23 يوما، 1436 فلسطينيا، مقابل مصرع 13 إسرائيليا. والثانية (2012)، واستمرت ثمانية أيام، ذهب ضحيتها 155 من الفلسطينيين مقابل ثلاثة إسرائيليين. أما الثالثة، التي استمرت 50 يوما (2014)، فذهب ضحيتها 2174 فلسطينيا مقابل مقتل 70 إسرائيليا، في حين نجم عن الحرب الرابعة (صيف 2021) مصرع 243 فلسطينيا مقابل 12 إسرائيليا. وأدت الحرب الخامسة (صيف 2022) إلى مصرع 44 فلسطينيا بدون أي خسارة اسرائيلية.
ليست وحدها الخسائر البشرية ما حفز إسرائيل على الانسحاب من القطاع، إذ الأولى لإسرائيل الانسحاب من الضفة، التي خسرت فيها حوالي 900 من الإسرائيليين خلال فترة الانتفاضة الثانية
وهكذا، فثمة أكثر من أربعة آلاف شهيد من الفلسطينيين، وعشرات الألوف من الجرحى والمعاقين، ناهيك عن دمار هائل لبيوت وممتلكات، مقابل مصرع 98 إسرائيليا، في كل تلك الحروب، من دون أن تغير تلك "الانتصارات" واقع الفلسطينيين، في غزة، أي واقع الحصار، والفقر، رغم كل الحديث الرغبوي، المفعم بالأوهام والمبالغات، عن توازن الردع ووحدة الساحات وقواعد الصراع والتهديد بزلزلة الأرض تحت أقدام إسرائيل.
مفهوم أن الفلسطينيين يتوقون لأي انتصار، وأن ذلك يستند إلى إيمانهم بحقهم، وروح التضحية عندهم، لكن ذلك يوجب السؤال الموجع في إنه إذا كانت تلك كلها انتصارات فلماذا حال الفلسطينيين في كل هذا البؤس في كافة أماكن وجودهم؟ أو إلى أين ستأخذ الفلسطينيين؟