في بدايات هذا القرن المليء بالتناقضات وبالمفارقات المأسويّة والدراماتيكيّة والحافل بالارتدادات وبأشكال التغيّرات التي أصابت أنظمة القيم الاجتماعيّة والسياسيّة في صميمها، وبعدما سادت أنسقة الاستهلاك بأدواتها وحروبها، هل تبقّى من مكان للمسرح؟
المسرح العربي (كالغربي عموما) لم يسلم من كلّ هذه الظواهر. فهو اليوم وحيد وأعزل لا من المؤسسات، بل من الجمهور نفسه الذي تأثّر إلى حدٍّ كبير بالثقافة السائدة فَمَالَ إلى ما هو زائد من الفنون الاستهلاكيّة والتجاريّة السهلة، فطغى المسرح التجاري (الذي لا نرى سواه على شاشات التلفزة)، فتقهقرت المسارح الجادّة والملتزمة، تقهقرا نخشى إذا استمرّ أن يؤدّي إلى زواله. فكأنّنا نشاهد من كل ذلك أن المسرح بالنسبة إلى الناس صار لزوم ما لا يلزم، بل صار عبئا أو حتى جزءا من مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع، بل كأنّه صار جسما غريبا في هذه المجتمعات.
إذا سلّمنا جدلا بانتفاء هذه الحاجة فيعني أنّ الثقافة ككل (لا كجزء) انتفت الحاجة إليها من شعر ورواية وفنون... ويعني تاليا فصل الثقافة عموما والمسرح خصوصا عن أشكال التطوّر الاجتماعي وسواها، فنكون بذلك ننزع العناصر المدنية المؤسّسة للجمهور، والمجتمع، المدني والتاريخي والديموقراطي، ونخليه نهبا للآلة الاستهلاكيّة التي تطفئ كلّ شيء؛ أي تُعدم باسم المدنيّة المجتمع المدني نفسه بتطلّعاته الإنسانيّة والروحيّة والإبداعيّة وبِقِيَمه غير الماديّة البحتة. لهذا نرى أنّ المسرح، وأكثر من أيّ وقت مضى، ضرورة مُلحّة وعضويّة لدى الفرد والشعوب كمكان استثنائيّ، للتلاقي والحوار المفتوح في زمن الصراعات العنصريّة والسياسيّة المغلقة، وكمساحة حيّة في زمن المعلّبات، والمستوعبات، بل كمكان للتجاوز في زمن العنف والكراهيّة واللاتسامح، ليكون مختبرا للوعي الإنسانيّ وضميره في زمن التخدير العام، والجسر الممدود بين المراحل في أزمنة القطيعة التي نحياها، ومتراسا للتصدّي لظواهر الجمود والانحطاط.