"يستعمل الإنسان البرونز مرآة، يستعمل الإنسانُ العصورَ القديمة مرآة... يستعمل الإنسانُ الإنسانَ مرآة".
من اقتباسات فيكتور سيغالين
اللفظ اللاتيني الدال على المرآة هو speculum، وspéculation هي مراقبة السماء وحركات النجوم باستعمال المرآة، إلا أنها تعني كذلك التأمل وإعمال الفكر.على هذا النحو يرتبط التأمل والاعتبار والنظر بالانعكاس. كل تأمل وتفكير réflexion، يمر عبر انعكاس réflexion، يمر عبر مرآة.
عندما يخرج الشعاع الضوئي من وسط ليدخل وسطا آخر، فإنه ينكسر وينعكس. لذا كلما وقفنا أمام قطعة برونز أو فضة أو زجاج، وكلما حاذينا بقعة ماء، رأينا صورتنا على البرونز أو الفضة أو الزجاج أو الماء. كل هذه السطوح المصقولة والمياه الراكدة مرايا تعكس صورنا. غير أن هناك مرايا لا مادة لها. إذ إننا يمكن أن نرى صورنا أيضا في عيون الآخرين، وفي مرآة الماضي كما في مرآة الحاضر. نرى صورتنا (بل صورنا المتعددة) التي يعكسها لنا وعينا بتراثنا، كما نرى صورنا التي تقدمها لنا وعنّا الثقافة الغربية، في الرسوم التي ترسمها لنا، والحكايات التي تحكيها عنا، والروايات التي تكتبها لنا، والأفلام التي تصنعها عن مجتمعاتنا وتاريخنا. نراها على لوحاتها، ونشاهدها على خشبات مسرحها ونسمعها في موسيقاها وفي ما تتناقله من طرفات.
هكذا، فإن وعينا بأنفسنا لم يعد يتمّ إلا عبر هاته المرايا، فنحن لا ندرك ذواتنا، ليس فقط إلا عبر آخر، وإنما من طريق الإدراك الذي لدى الآخر لنا. فلا نرى أنفسنا إلا بعينيه، ولا نثمّن إلا ما يثمّنه فينا. لا نلتفت إلى ذواتنا إلا بإيعاز منه، ولا "نكتشف" نصا من تراثنا إلا بعد أن يُربط بأحد متونه، لا نكتشفه إلا كانعكاس وصورة لنص غربي، هذا كان شأننا مع كثير من نصوصنا التراثية كـ"حي بن يقظان" و"رسالة الغفران" و... حتى مقدمة ابن خلدون. حتى "الليالي"، فإنها لم ترق في أعيننا إلى مستوى النصّ الأدبي، إلا بعدما تناولها الأوروبيون بالترجمة. فنحن أصبحنا نعتمد ترجمات ومقارنات وموازنات، شعورية أو لاشعورية، كيفما كانت الظاهرة التي نصفها، كما صار لا معنى لما نكتبه ونقرأه إلا في ترجمته. أصبحنا نكتب كي نُتَرجَم. بل إنّ منّا من يكتب أوّلا بغير العربيّة، كي يَعمل هو نفسه، في ما بعد، على ترجمة ما كتب، حتى إنّ بعض الرّوائيين العرب أصبحوا يكتبون وهم يفكّرون في مترجِمهم المحتمل. وهكذا أصبحنا لا نقرأ أدبنا (ولا نكتبه) إلا مترجمين مقارنين موازنين. فلم تعد المقارنة وقفا على بعض المتخصّصين، وإنّما هي تعمّ كل من يقترب من الثقافة العربية. إن القارئ الذي يطّلع على نصّ عربي، سرعان ما يربطه بصفة مباشرة، أو غير مباشرة، بوعي أو بدونه، يربطه بنصّ أوروبي، إنّه مقارِن ضرورة، أو إذا شئنا، مترجم. لقد أبدعنا طريقة خاصّة في القراءة، نقرأ نصّا عربيا وفي ذهننا نصوص من الأدب الفرنسي أو الإنكليزي أو الإيطالي. إلا أن الأهم من ذلك هو أن الترجمة لم تعد تعقب كتابة نصوصنا وتأتي بعدها، وإنما أصبحت تتخللها. فهي لم تعد بالنسبة إلينا نقل لغة إلى لغة أو أدب إلى أدب، بل إنها لم تعد مجرّد نشاط فكري، وإنّما صارت أسلوب تفكير، بل أسلوب حياة ونمط عيش.فكل ما نكتبه أو نقوله بلغتنا مشروط بلغات أخرى متضمِّن لها. لقد صارت الترجمة واقعنا المعيش. ربما يصح أن نطلق على وضعية الاستنساخ هذه، التي تضج مرايا، "وضعية ترجمة".Une situation de traduction
صار لا معنى لما نكتبه ونقرأه إلا في ترجمته. أصبحنا نكتب كي نُتَرجَم. بل إنّ منّا من يكتب أوّلا بغير العربيّة، كي يَعمل هو نفسه، في ما بعد، على ترجمة ما كتب، حتى إنّ بعض الرّوائيين العرب أصبحوا يكتبون وهم يفكّرون في مترجِمهم المحتمل
لا تقتصر هذه الوضعية على مدركاتنا، بل إنها ترقى إلى مسألة الاعتراف و"تقدير الذات"، فنحن لا ننتبه إلى ما حققناه، ولا نشعر بقيمة ما أنجزناه وما ننجزه إلا عبر اعتراف الآخر. يتجلى لنا ذلك ربما أوضح تجلّ في ذلك التسابق الذي نلحظه عند كُتّابنا لقراءة ما أبدعوه في لغة أوروبية، حيث يتبدى واضحا أن كل تقدير للذات لا بدّ أن يمرّ عبر مرآة الآخر واعترافه.
غير أن فعل المرايا والانعكاسات لا يقف عند هذا الحد، إذ سرعان ما تبدأ آلية الاستنساخ هذه في التوالد، وتأخذ الصور المعكوسة في توليد أخرى، وسرعان ما تغدو هي بدورها أصولا تُستنسخ عنها صور، فنأخذ في التشبّه بالصور التي ما تفتأ مرايا الآخر تعكسها لنا وعنّا. الأمر يتم هنا كما يتمّ في الإشهار والإعلان. فالإعلان مرآة يرى فيها المجتمع ذاته وما يرغب فيه، إلا أن المجتمع سرعان ما يحاول أن يتطابق مع الصورة التي تُعكس عنه، يحاول أن يستنسخها، إلى حدّ أن في إمكاننا أن نقول إن المجتمع المعاصر لم يعد في إمكانه أن يحيا من غير إشهارات وإعلانات. ذلك أننا أصبحنا نرغب في أن نرى أنفسنا في مرآة الإعلانات، أصبحنا في حاجة ماسة إلى من يدغدغ عواطفنا ويشعرنا أننا في أياد آمنة، وأن هناك من يوفّر لنا ما نحتاجه من تواصل ومتع ومن يسهر على صحتنا وتوفير أموالنا. لقد أصبحنا نرغب في أن نرى رغباتنا مصورة معروضة. قد لا يهمنا المنتوج موضوع الإعلان، ولكن ما يهمنا هو الإعلان في حد ذاته، هو الإعلان ذاته كمنتوج ثقافي، وما يسعى إليه من عكس صور نتجند لاستنساخها.
هذه بالضبط هي حالنا مع كل الصور التي تُعكس عنّا، سواء جاءتنا من قطعة الزجاج، أم من ماضينا، أو من الثقافة المهيمنة. فكل هذه المرايا، إذ تعكس عنا صورة تدفعنا لأن نستنسخها، حتى إنه يبدو من الصعب في النهاية أن نحدد الأصل والنسخة، الموضوع والصورة، الناسخ والمنسوخ، إن هي إلا لعبة مرايا تعكس سيمولاكرات هويات، وتستنسخ هويات سيمولاكرية.