كانت الدراما الخليجية طوال عقود محدودة نسبيا قياسا بنظيرتها في باقي العالم العربي، ولا سيّما في مصر وسوريا اللتين تربعتا على عرش صناعة الدراما لفترة طويلة. بيد أن السنوات القليلة الماضية شهدت تحولات كبيرة في دول الخليج العربي، على جميع الصعد، ومن بينها صناعة الفن مثل الدراما والسينما والمشاريع الفنية. وفي الموسم الرمضاني الدرامي هذه السنة، ثمة حزمة كبيرة من المسلسلات الخليجية وبخاصة السعودية والكويتية، تتنافس بقوة على جذب المشاهدين، ليس في الخليج فحسب، بل وفي باقي أرجاء العالم العربي.
اللافت أن الأعمال الدرامية الخليجية تملأ زاوية فارغة لطالما شكلت ثغرة بارزة في الدراما العربية، إذ تركز في غالبيتها على العصرنة وجيل الشباب والتفاعلات على شبكات التواصل الاجتماعي، ودور هذه الشبكات في إنتاج الآراء العامة كسلطة رقابية تفاعلية، وكمحرك بارز للشباب والمرأة.
من الملاحظ أن عدد كبيرا من أبطال المسلسلات السعودية هذه السنة كانت انطلاقتهم من منصة "يوتيوب" عبر عدد من الأعمال والبرامج. كذلك فإن أغلب الأعمال كانت ذات لمسة كوميدية تفاوتت درجاتها بين عمل وآخر. وهذا ما يعبر عن رغبة صنّاع الدراما الخليجية في إخراج المشاهد من رتابة حياته اليومية وضغوطها عبر لمسات كوميدية تزين بها اللوحة الدرامية لمسلسلات الموسم الرمضاني.
بذلك يكتسب مصطلح الترفيه بعدا أكثر عمقا ينأى به تماما عن التسطيح الذي تعرض له هنا أو هناك في السابق. ويجعله يظهر باعتباره سياسة إدارية وتخطيطا طويل الأمد بدأ يتظهر القليل من آثاره، لكن جني الثمار لا يزال يحتاج الى الصبر ومراكمة الجهود.
لا ريب أننا سنشهد خلال السنوات القليلة المقبلة تطورات كبيرة في صناعة الفن السعودي والخليجي، تراكم على ما تحققه من نجاحات اليوم، لتبني أساسا لصناعة مستدامة، تمنح فيها الفرصة لاكتشاف عشرات المواهب في التمثيل والكتابة والإخراج. بالإضافة الى تقديم الموروث الثقافي في حلة درامية جذابة في ظل التركيز الرسمي والوطني على إحياء هذا الموروث وتقديمه بطابع مميز في العديد من الفعاليات والمناسبات.
اقرأ أيضا: دراما رمضان.. وجبات عاطفية قاتلة
مسلسل "سفر برلك"
في هذا السياق، لم تغب النفحة التاريخية بالكامل عن الأعمال الدرامية السعودية في الموسم الرمضاني. فقد حضر مسلسل "سفر برلك" التاريخي، وهو أضخم عمل إنتاجي عربي هذه السنة.
المسلسل تجسيد ملحمي لمآساة التهجير القسري لسكان المدينة المنورة إبان الحرب العالمية الأولى، وعرض للتاريخ من منظور آخر، يحاكي الحقبة اجتماعيا وسياسيا وثقافيا وعسكريا. العمل يستفز الوعي والذاكرة الجمعية من خلال سرد حقبة مؤلمة من حقب الحكم العثماني، ولا سيما أن هذه المآساة لا تزال محفورة بعمق في الذاكرة الجمعية لأهل المدينة المنورة على الرغم من مرور أكثر من قرن على حدوثها.
مصطلح "سفر برلك" يعني "النفير العام" الذي أصدره السلطان العثماني محمد رشاد عام 1914، عقب دخول الدول العثمانية الحرب العالمية الأولى. لكن الجمهور العربي، وحتى الخليجي، لا يعرف مدى تداعياته على المدينة المنورة بالذات. وقد قضى هذا الفرمان بإلزامية الخدمة العسكرية لكل رعايا السلطنة العثمانية ممن هم في عمر الخدمة (من 15 الى 45 سنة).
يحكي العمل قصة أربعة شبان عرب: سعودي، وسوري، ولبنانيان، يدرسون في جامعات اسطنبول. لكنهم بعد صدور الفرمان إياه انتقلوا من التحصيل العلمي الى جبهات القتال مع الجيش العثماني في معارك البلقان وعلى الحدود الروسية. ثم بعد ذلك تمردوا على ظلم السلطنة ووحشية ممارستها. ينتمي الشاب السعودي الى عائلة لها ثقلها الاجتماعي والثقافي والسياسي في المدينة المنورة، ويتأثر بارتكابات ومظالم الحكومة العثمانية تجاه مدينته. كذلك حال أصدقائه الباقين، وإن كان العمل يركز على المدينة المنورة.
المسلسل يتحدث عن حقبة مؤلمة وحساسة ومضطربة في التاريخ العربي والإسلامي. ويسلط الضوء على التحولات التي تلت وصول جماعة "الاتحاد والترقي" الى السلطة في الدولة العثمانية. تلك الحقبة تعدّ الأساس الذي قامت عليه مشاعر العداء بين الشعوب تحت حكم العثمانيين، وبين الشعب التركي، والتي لا تزال ترخي بثقلها على العلاقات السياسية في زماننا. ذلك عائد الى غياب النقد الذاتي التركي لتلك الحقبة، واعتبار الرواية التاريخية الرسمية التركية أن هذه الشعوب طعنت الدولة العثمانية، وغضت الطرف عن المآسي وبحور الدماء التي تسبب بها الحكم العسكري القائم آنذاك، وأدى في النهاية إلى هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وانحلالها. من هذا المنطلق أخضع العمل لمراجعة عدد من المؤرخين والباحثين، وإن كان ذلك لم يحل دون توجيه انتقادات لاذعة إليه.
بيد أن المسلسل حظي بتفاعل كبير لدى الجمهور العربي، وبخاصة السعودي. وهو من إخراج السوري الليث حجو، لكنه في الأصل كان للمخرج السوري المبدع حاتم علي، الذي كان يعكف على التحضير له بالاشتراك مع حجو، تحت عنوان "سنوات الحب والرحيل"، إلا أن المنية وافت علي عام 2020 قبل أن يبصر العمل النور. المسلسل من إنتاج "MBC" ويعرض على منصة "شاهد".
أوضحت "MBC" أن مشاهد المدينة المنورة في المسلسل جرى تصويرها في مدينة شُيّدت خصيصا لتحاكي الأحداث بمساحة قدرها نحو 25 ألف متر مربع. كذلك شيّدت مدينة تحاكي مدينة اسطنبول. علاوة على مشاهد الحرب في سيبيريا والقوقاز. بالإضافة الى تصوير بعض المشاهد في دمشق وبيروت، من دون إغفال الأزياء والماكياج. وتولى المخرج الإسباني اليخاندرو توليدو، الإعداد والإشراف على مشاهد المعارك والأكشن وإدارة الحشود، نظرا إلى كونه متخصصا في هذا النوع من الأعمال. في حين تولى المخرج الإسباني ريكاردو كروز إدارة معارك الخيول، وهو مصمم معارك شهير له باع كبير في هذا المضمار. وقد سخّرت الجهات الإنتاجية أكثر من 14 ألفا من الحشود البشرية، ونحو 95 ممثلا رئيسيا، و120 ممثلا مساعدا.
المسلسل يحمل اسم فيلم شهير في التراث الفني اللبناني للأسطورة فيروز والأخوين رحباني، أنتج عام 1967، ويعالج القضية نفسها، ومن المنظور نفسه تقريبا، وهو ندوب التاريخ.