25 سنة على "الجمعة العظيمة": اتفاق تاريخي رغم نواقصهhttps://www.majalla.com/node/289331/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/25-%D8%B3%D9%86%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%85%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B8%D9%8A%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D8%AA%D9%81%D8%A7%D9%82-%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE%D9%8A-%D8%B1%D8%BA%D9%85-%D9%86%D9%88%D8%A7%D9%82%D8%B5%D9%87
25 سنة على "الجمعة العظيمة": اتفاق تاريخي رغم نواقصه
AFP
رئيس الوزراء البريطاني توني بلير والمبعوث الاميركي السناتور جورج ميتشل ورئيس الوزراء الايرلندي بيرتي اهيرن بعد توقيع اتفاق الجمعة العظيمة في 10 ابريل 1998
25 سنة على "الجمعة العظيمة": اتفاق تاريخي رغم نواقصه
صادف العاشر من أبريل/ نيسان 2023، الذكرى السنوية الخامسة والعشرين لاتفاق الجمعة العظيمة الذي أنهى 30 عامًا من العنف في أيرلندا الشمالية، وهي الفترة المعروفة باسم "الاضطرابات".
وللأسف لا تزال المنطقة غير مستقرة سياسيا. فقد جرى تعليق عمل حكومة تقاسم السلطة التي نص عليها الاتفاق منذ شهر فبراير/ شباط عام 2022، وهذا هو التعليق الأخير في قائمة طويلة من حالات الإغلاق. فقد سبق ذلك في حقيقة الأمر إغلاق مقر الحكومة في ستورمونت، ومؤسسات تقاسم السلطة الأخرى، مدة تسع سنوات في هذه السنوات الـ 25 الماضية، وهو ما يشير إلى استمرار الانقسامات التي ابتليت بها هذه المقاطعة.
وهذه السنة، تأتي الذكرى السنوية في وقت متوتر على نحو خاص، إذ أضافت وقائع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2020 تعقيدا جديدا على وضع معقد بالأصل. ولا بد أن البعض يرى أن الاتفاق قد يحتاج إلى مراجعة للتغلب على ما يبدو أنه مأزق دائم ساهم الاتفاق في خلقه.
ومع أن الاتفاق كان يعاني من خلل كبير وواضح، فلا ينبغي أن نبخس من قيمة إنجازاته. فقد جرى التغلب على ما كان يبدو نزاعا مستعصيا على الحل. وبينما قتل أكثر من 3500 شخص خلال فترة "الاضطرابات"، لا يزيد عدد من قتلوا "لأسباب أمنية" منذ بداية الاتفاق عن 200 شخص، ناهيك عن أن جيلا كاملا من الشباب قد نشأ الآن في بيئة آمنة بمعظمها، وهو أمر لم يحظ به آباؤهم قط. ربما قد تستمر الانقسامات، ولا زال هناك عمل يتعين القيام به، غير أن اتفاق الجمعة العظيمة يظل إنجازا تاريخيا يثير الإعجاب.
فترة "الاضطرابات"
تدين أيرلندا الشمالية بوجودها للاستعمار البريطاني. فقد غزا الإنكليز أيرلندا لأول مرة في القرن الثاني عشر، إلا أن اهتمامهم بها ازداد في عهد الملك هنري الثامن وخلفائه بعد ذلك بأربعمائة سنة. وكي يواجه الإنكليز الأغلبية الساحقة من سكان أيرلندا الكاثوليك، الذين اعتقد حكامهم البروتستانت أنهم لن يكونوا موالين لهم، وجدت لندن الحل في الاستيلاء على مساحات كبيرة من الأراضي الايرلندية ومنحها للمستوطنين من الإنكليز والاسكتلنديين البروتستانت في مقاطعة أولستر شمالي إيرلندا.
ومع الزمن، شكّل هؤلاء البروتستانت مجتمعا محليا كبيرا وقويا في أولستر، مؤمنا باستمرار اتحاد أيرلندا مع بريطانيا العظمى. إلا أن القوميين الايرلنديين كانت لهم وجهة نظر أخرى وحاربوا البريطانيين الذين اضطهدوا الأغلبية الكاثوليكية لقرون. وبعد حرب الاستقلال الوحشية، وافقت لندن على المغادرة، لكن المجتمع البروتستانتي "الاتحادي" في أولستر طالب بالبقاء مع بريطانيا. فأدى ذلك، في عام 1921، إلى تقسيم أيرلندا وقيام دولة أيرلندية حرة في معظم الجزيرة، أصبحت في ما بعد جمهورية أيرلندا. ومنطقة أخرى جديدة، هي "إيرلندا الشمالية"، غطت معظم منطقة أولستر وظلت جزءا من المملكة المتحدة.
تأتي الذكرى السنوية في وقت متوتر على نحو خاص، إذ أضافت وقائع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2020 تعقيدا جديدا على وضع معقد بالأصل. ولا بد أن البعض يرى أن الاتفاق قد يحتاج إلى مراجعة للتغلب على ما يبدو أنه مأزق دائم ساهم الاتفاق في خلقه
وبينما ضمت أيرلندا الشمالية الجديدة أغلبية بروتستانتية وحدوية، كان فيها أيضاً مجتمع كاثوليكي كبير فضّل لو تظل المقاطعة جزءا من أيرلندا المستقلة. وخشي كثير من الاتحاديين من هؤلاء "القوميين" الكاثوليك. واعتقدوا أنهم يتآمرون لتوحيد أيرلندا الشمالية مع جمهورية إيرلندا، فسَعَوا إلى إقصائهم عن السلطة السياسية الحقيقية ومارسوا التمييز ضدهم على نحو منهجي.
ومع الزمن أثار ذلك استياء وإحباط المجتمع القومي، وأدى إلى اندلاع حركة احتجاج كبيرة وحركة حقوق مدنية في ستينيات القرن الماضي. وقد واجهت قوة الشرطة الاتحادية هذه الاحتجاجات بالعنف، كما مارست العنف القوات شبه العسكرية الاتحادية المسلحة كـ"قوة متطوعي أولستر"، التي تشكلت، في رأيهم، لحماية المجتمعات البروتستانتية وحماية وضع أيرلندا الشمالية وبقائها في الاتحاد.
تحول بعض القوميين أيضا إلى العنف، مع تشكيل "الجيش الجمهوري الأيرلندي" في المقاطعة عام 1969 بهدف توحيد أيرلندا. وكثف المتشددون من الجانبين حملات العنف، واستهدف كل طرف بهجماته بالقنابل والبنادق مجتمعات الطرف الآخر المحلية، وهو ما كانت تعقبه هجمات انتقامية. وهكذا بدأت مرحلة "الاضطرابات".
ردت الحكومة البريطانية بإرسال جيشها لاستعادة النظام عام 1969. لكن سرعان ما اعتُبرت قوات الحكومة ذراعا لسيطرة الاتحاديين، لا سيما بعد أن قتل جنودها بالرصاص 14 قوميا أعزل في مسيرة سلمية عام 1972، عرف باسم "الأحد الدامي".
ومع أن لندن رغبت في أن تتعامل إيرلندا الشمالية بنفسها مع مشاكلها الخاصة، فقد انغمست أكثر في عمق الأزمة. وخلصت عام 1972، الى أن البرلمان ورئاسة الوزراء اللذين كان يسيطر عليهما الاتحاديون منذ عام 1921 غير قادرين على استعادة النظام، فعلقت عمل هذه الحكومة وفرضت حكماً مباشرا من لندن. وبينما كان مقصدها أن يكون هذا الإجراء مؤقتا، إلا أنه استمر حتى اتفاق الجمعة العظيمة عام 1998.
تحول بعض القوميين الايرلنديين إلى العنف، مع تشكيل "الجيش الجمهوري الأيرلندي" في المقاطعة عام 1969 بهدف توحيد أيرلندا
في ذلك الوقت بات العنف جزءاً من الحياة اليومية، وأصبحت عمليات القتل خارج نطاق القانون والاعتقالات الجماعية وحواجز الطرق والسيارات المفخخة والمذابح، أمرا شائعا. كما وسّع الجيش الجمهوري الأيرلندي نطاق العنف ليشمل البر البريطاني الرئيس، إذ شنّ سلسلة من الهجمات بالقنابل على أهداف مدنية وعسكرية وتجارية من سبعينيات إلى تسعينيات القرن الماضي، سعياً منه الى إجبار لندن على التفاوض.
"اتفاق الجمعة العظيمة"
في الوقت الذي أصرت فيه لندن رسميا على أنها لن تتفاوض مع "إرهابيي" الجيش الجمهوري الإيرلندي، أبقت على القنوات الخلفية مفتوحة لبعض الوقت، عبر الحكومة الأيرلندية والسياسيين القوميين الإيرلنديين الشماليين. وتكثفت المفاوضات هذه في تسعينيات القرن الماضي، في ظل رئيس الوزراء جون ميجور. وأفضت في النهاية إلى موافقة كل من الوحدات شبه العسكرية الاتحادية والقومية على وقف إطلاق النار عام 1994.
وقد مهد ذلك الطريق لعملية سلام طويلة الأمد استمرت عدة سنوات، رغم خرق وقف إطلاق النار أحيانا. كما قدم تدخل الولايات المتحدة مساعدة كبيرة، إذ أبدى الرئيس بيل كلينتون اهتماماً شخصياً، فعين السناتور جورج ميتشل مبعوثًا خاصا إلى إيرلندا الشمالية، وسيتولى لاحقًا دورا رائدا في المفاوضات. وعندما انتخب توني بلير رئيسًا للوزراء في بريطانيا عام 1997، أعاد تنشيط عملية التفاوض، التي توقفت إلى حد ما وعمل مع سياسيي إيرلندا الشمالية ورئيس الوزراء الأيرلندي بيرتي أهيرن على دفع المفاوضات قدماً إلى الأمام. وفي نهاية المطاف، توصل القادة الاتحاديون والقوميون، بوساطة ميتشل، إلى اتفاق يوم الجمعة العظيمة في 1998.
حاول الاتفاق استرضاء كلا الطرفين الاتحادي والقومي. وأبقى على أيرلندا الشمالية كجزء من المملكة المتحدة، لكن الاتفاق تضمن أن هذا الوضع قد يتغير في المستقبل إذا رغبت غالبية السكان بذلك. كما سمح للمولودين في أيرلندا الشمالية بالحصول على الجنسية البريطانية أو الأيرلندية أو كليهما.
وشُكلت حكومة إيرلندية شمالية جديدة تمثل كلا المجتمعين المحليين. ولتجنب هيمنة الاتحاديين كما في الماضي، قضى الاتفاق بتشكيل جهاز تنفيذي من كل من الاتحاديين والقوميين. علاوة على ذلك، وكإجراء احترازي، اقتضى أن يكون الوزير الأول ونائبه أحدهما وحدوي والآخر قومي، وإذا استقال أحدهما، لا يمكن للآخر أن يبقى في منصبه بمفرده.
وفي الجانب الأمني، وافق الجيش البريطاني على تقليص وجوده وعلى إزالته في نهاية المطاف، ووافقت القوات شبه العسكرية من كلا الجانبين على نزع سلاحها، بينما تم إطلاق سراح الأشخاص المتورطين في أعمال عنف من السجن. كما جرى بعد سنوات حل قوة الشرطة التي يهيمن عليها البروتستانت، واستبدلت بسلك جديد يضم المزيد من الأعضاء الكاثوليك، ولو أن تمثيلهم ظل دون المطلوب.
أيدت غالبية الأحزاب السياسية القومية الاتفاق، لكن الاتحاديين انقسموا على أنفسهم. وأصبح زعيم أكبر حزب وحدوي، ديفيد تريمبل من حزب أولستر الاتحادي، أول رئيس للوزراء، لكن عددا من الأعضاء القياديين انشقوا عنه. أما الحزب الديمقراطي الاتحادي المنافس، بقيادة إيان بيزلي، فوقف ضد الاتفاقية بشدة، واعتبرها خيانة لهوية ايرلندا الشمالية البروتستانتية والبريطانية. غير أن حملة "لا" بقيادة بيزلي هزمت بنسبة 71 بمقابل29٪ في الاستفتاء الذي أعقب الاتفاق.
كما أجرت جمهورية أيرلندا استفتاء مزامنا تغير فيه دستورها بحيث تحل محل المطالبة الصريحة بالشمال، دعوة إلى توحيد أيرلندا إذا عبر السكان عن ذلك ديمقراطيا، وأيد الناخبون هذا التغيير بنسبة 94 في المئة.
وافق الجيش البريطاني على تقليص وجوده وعلى إزالته في نهاية المطاف، ووافقت القوات شبه العسكرية من كلا الجانبين على نزع سلاحها، بينما تم إطلاق سراح الأشخاص المتورطين في أعمال عنف من السجن. كما جرى بعد سنوات حل قوة الشرطة التي يهيمن عليها البروتستانت
اتفاق منقوص؟
جادل منتقدو الاتفاقية في وقت لاحق في أن الاتفاق كان محاطا بالغموض، ما سمح لكل طرف أن يجد فيه ما يريد رؤيته. واستمرت قضايا الخلاف الرئيسة في تعطيل الهياكل السياسية الجديدة. فبعد تسعة أسابيع فقط من تشكيل الحكومة الجديدة في عام 1999، قامت لندن بتعليقها بسبب بطء التقدم في إيقاف استخدام أسلحة الجيش الجمهوري الإيرلندي. وتكرر الأمر عينه بعد عدة أشهر، ما تسبب في استقالة تريمبل نهائيا في عام 2001. ثم علقت لندن الحكومة لمدة 5 سنوات في عام 2002 بعد اتهام حزب "شين فين"، الجناح السياسي للجيش الجمهوري الأيرلندي، بالتجسس على الحكومة البريطانية.
وعلى الرغم من استعادتها في عام 2007، عادت الحكومة وعلقت اعمالها من جديد في عام 2017 عندما استقال نائب الوزير الأول من Sinn Fein"شين فين" ، ما أدى إلى انهيار الحكومة بسبب دور الوزير الأول من الحزب الديمقراطي الاتحادي في مخطط للطاقة. واستعيدت الحكومة في عام 2020 لكنها انتهت مرة أخرى في عام 2022 عندما انسحب الحزب الديمقراطي الاتحادي، هذه المرة، بسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
يجادل البعض في أن مشكلة اتفاقيه الجمعة العظيمة تكمن في أنها توفر ساحة سياسية غير عنيفة للانقسامات، بدلا من العمل على حلها أو إنهائها. وقد أنشئت حكومة إيرلندا الشمالية بطريقة تصنف الأحزاب والناخبين تصنيفا إما في معسكرين: أما "اتحادية" أو "قومية،"، بدلاً من السماح للهويات غير الطائفية بالظهور والازدهار، على أساس الأيديولوجية السياسية.
وشهد أحد الأحزاب، وهو حزب التحالف، بعض النجاح حين زاد تمثيله كمجموعة غير طائفية لا تماشي الاتحاديين ولا القوميين، وتحظى بشعبية خاصة بين الشباب الذين نشأ الكثير منهم بعد فترة الاضطرابات. ومع ذلك، يجدر بنا الانتباه إلى أن الأحزاب الأكثر تطرفا من كلا الجانبين هي من يسيطر في فترة ما بعد اتفاقية الجمعة العظيمة على الساحة السياسية. وهكذا نرى كيف همّش الحزب الديمقراطي الاتحادي، وهو الحزب الاتحادي المهيمن، حزبَ أولستر الاتحادي (UUP) الأكثر اعتدالا، بينما طُرد الشين فين حزبَ العمال الاشتراكي الديمقراطي (SDLP) الأكثر اعتدالا، من طرف القوميين. ومع الانقسام المترسخ في اتفاقية الجمعة العظيمة، فإن من غير المفاجئ – برأي النقاد – أن تظهر الأحزاب المتطرفة كأنها سيدة الساحة.
عامل بريكست
زاد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من حدة الانقسامات. كانت العضوية المشتركة بين المملكة المتحدة وأيرلندا في الاتحاد الأوروبي أحد الأركان الأساسية لاستمرار طرفي اتفاقية الجمعة العظيمة.
وتعني الحركة الحرة للبضائع والأشخاص الذين جلبتهم عضوية الاتحاد الأوروبي أنه بمجرد انتهاء الاضطرابات وتفكيك نقاط التفتيش العسكرية للجيش البريطاني على الحدود، يمكن للمواطنين الإيرلنديين الشماليين بسهولة السفر إلى بريطانيا أو أيرلندا أو العمل فيهما دون الكثير من العوائق. سوى أن تصويت بريطانيا لمغادرة الاتحاد الأوروبي في عام 2016 واختيار لندن "الخروج الصعب"، بما في ذلك خروجها من السوق الحرة والاتحاد الجمركي في الاتحاد الأوروبي، عرّض هذا الوضع للخطر. وعلى الرغم من أن الاتفاقية لم تذكر صراحة بقاء الحدود مفتوحة، أصر الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على أن أي اتفاق بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بين لندن وبروكسل يجب ألا يعيد الحدود الصعبة جمهورية أيرلندا وايرلندا الشمالية.
بدلا من ذلك، وافق رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون على بروتوكول أيرلندا الشمالية كجزء من صفقة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الذي نتج عنه إنشاء حاجز جمركي بين بريطانيا وأيرلندا الشمالية، ما يسمح للبضائع بالتدفق دون عوائق إلى الجمهورية وإبقاء الحدود مفتوحة.
لكن ذلك أدى في الواقع إلى فصل أيرلندا الشمالية عن بقية المملكة المتحدة وأثار غضب العديد من النقابيين، وخاصة الحزب الديمقراطي الاتحادي، الذي كان قام بحملة لمغادرة الاتحاد الأوروبي وقد تلقى وعدا من جونسون وقتها بأنه لن يكون هناك حاجز جمركي في البحر الأيرلندي. وشعر الحزب بالخيانة، ما دفعه إلى الانسحاب من حكومة المقاطعة (ستورمونت) في عام 2022.
في الآونة الأخيرة، حاول رئيس الوزراء البريطاني الجديد، ريشي سوناك، حل هذه المشكلة من خلال الاتفاق على ترتيب جديد مع الاتحاد الأوروبي بشأن أيرلندا الشمالية، مؤداه أن البضائع التي تتجه إلى أيرلندا الشمالية فقط لن تخضع للجمارك في بريطانيا كما ينطبق الامر على البضائع المرسلة الى الجمهورية. ومع أن هذا لا يزال حاجزا جمركيا من نوع ما، فقد يرضي حساسيات الاتحاديين بشأن الشعور بالانفصال عن بقية المملكة المتحدة.
يبقى أن نرى إذا كان الحزب الديمقراطي الاتحادي سيقبل بذلك ويعود إلى ستورمونت. لكن مع ذلك قد يكون لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تأثير طويل الأمد على أيرلندا الشمالية. ولم تصوت أيرلندا الشمالية ككل لمغادرة الاتحاد الأوروبي، حيث صوت 55في المئة للبقاء بينما صوت 44 في المئة بالمغادرة. ومثل اسكتلندا، أثار فرض خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ضد إرادة الأغلبية الكثير من الغبار. ويغازل بعض القوميين المتشددين فكرة العودة إلى الكفاح المسلح، ولكن الأهم من ذلك هو أن عددا أكبر من الناس ينجذبون أكثر من أي وقت مضى إلى فكرة الاتحاد مع الجمهورية والعودة إلى الاتحاد الأوروبي. في الواقع، أظهر استطلاع للرأي أجري في عام 2019 أنه وللمرة الأولى، أيدت أغلبية ضئيلة الاتحاد مع أيرلندا، مع زيادة في عدد الناخبين الشباب المؤيدين بشكل خاص لذلك، سواء أكانوا من البروتستانت أم الكاثوليك.
سلام رغم هشاشته
لم يكن تخيل مثل هذا الاستطلاع ممكنا خلال فترة الاضطرابات، ولكن حدوثه الآن يظهر فوائد السلام الذي أتاحته اتفاقية الجمعة العظيمة. ومع أن الاتفاقية كانت بعيدة عن المثالية وأنها رسخت الانقسامات بطريقة مزعزعة للاستقرار، فقد تمكنت إلى حد كبير من توجيه الطاقة إلى ميدان السياسة بدلا من العنف.
ولو قارنا بين هذه العملية وعملية سلام أخرى أُطلقت في نفس الوقت تقريبا، بين الإسرائيليين والفلسطينيين، لأدركنا أهمية ما جرى في إيرلندا. ففي الشرق الأوسط، تراجع الطرفان وحلفاؤهما الخارجيون في النهاية عن تقديم تنازلات صعبة، وعلى الأخص في كامب ديفيد عام 2000، وكانت النتيجة جيلا آخر من الصراع والعنف. في المقابل، في بلفاست 1998، كان اللاعبون على استعداد للمخاطرة واتخاذ خيارات صعبة. وكانت النتيجة سلاما، ربما كان ناقصا، ولكنه دائم.