يلذّ للمؤرّخين من أمثالي دائما الكشف عن وثائق جديدة حتى لو كانت تتعلق بأحداث عقود أو قرون مضت، غير أن تسريب المستندات حول الصراع المستمر الدائر حاليا له طعم مختلف تماما، حيث يشير التسريب الأخير لوثائق من الولايات المتحدة ووزارة دفاعها إلى أننا في "عالم جديد شجاع" مختلف كليا.
ويجدر بنا هنا أن ننتبه ليس إلى محتوى التسريبات، ولكن إلى طريقة تسريبها أيضا، على الأقل بنفس درجة الانتباه.
بداية بات هناك اتهام لمصدر التسريب. لدينا شخص مثلا مثل إدوارد سنودن أو تشيلسي مانينغ، دون منصة صحافية مثل "ويكيليكس"، اذ اوقفت السلطات الأميركية الخميس شاباً بشبهة تسريب على الإنترنت وثائق دفاعية "سرّية للغاية" مما شكّل، على حدّ قول البنتاغون، خطراً "جسيما جدّاً" على الأمن القومي للولايات المتّحدة. وقال وزير العدل الأميركي ميريك غارلاند في مؤتمر صحافي مقتضب إنّ المشتبه به واسمه جاك تيكسيرا "تمّ توقيفه بدون حوادث" وسيمثل قريباً أمام محكمة فدرالية في ولاية ماساتشوستس (شمال شرق). وتيكسيرا عنصر في سلاح الجو التابع للحرس الوطني لولاية ماساتشوستس وقد أوقفه، بحسب وسائل إعلام أميركية، عناصر من مكتب التحقيقات الفدرالي "إف بي آي"، في دايتن، المدينة الريفية الصغيرة الواقعة جنوب بوسطن.
وبثّت شبكات تلفزيونية إخبارية من بينها "سي إن إن" مشاهد التقطت من الجو يظهر فيها عناصر من قوات الأمن تقتاد رجلاً يرتدي سروالاً قصيراً أحمر اللون وقميص تي-شيرت رمادياً ويداه فوق رأسه وتضعه في سيارة لا تحمل أيّ علامات.
كانت الوثائق نشرت على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة مثل تويتر وتلغرام وديسكورد (Discord) و "تشان 4" (chan4). وكان على الصحافيين والوكالات الحكومية السعي في الفضاء الإلكتروني لالتقاط هذه التسريبات التي قالت معلومات صحافية إن مجموعة من الشبان يقودهم عسكري متواضع الرتبة هم من يقفون وراء المسألة.
ويتضح للمراقب المدقق أن بعضا من هذه الوثائق زائف ومُزور، ولكن الأكيد أيضا أن الكثير منها أصلي. ولا عبرة هنا بمسارعة البريطانيين والفرنسيين والأوكرانيين إلى نفي صحتها، إذ إن مسؤولي البنتاغون أنفسهم أكدوا صحة بعض الوثائق على الأقل. ولم يدع وزير الدفاع لويد أوستن مجالا للشك حين قال: "سنواصل التحقيق ونقلب كل حجر حتى نجد مصدر هذا [التسريب] وإلى أي مدى ذهب".
هذا عن الشكل والأسلوب، ولكن ماذا عن محتوى الوثائق وما تكشفه عن حالة الحرب في أوكرانيا؟
حاولت أطراف مختلفة، كما هو متوقع، أن تستخدم المعلومات المسربة لتبرير حججها. فسارع يانغ شنغ، أحد كبار المراسلين في "غلوبال تايمز"، وهو منصة إلكترونية قريبة من الحكومة الصينية، إلى الادعاء بأن التسريب أظهر "انقساما خطيرا في معسكر الغرب" وأنه ساعد في "الإضرار بمعنويات الجيش الأوكراني والثقة داخل الدول الغربية في مواصلة دعم كييف".
ومن جانبه، قال أناتول ليفين، وهو شخصية بارزة في معهد "كوينسي" Qunicy، إن تسريب وجود جنود أميركيين وأوروبيين على الأرض أثار "قضايا خطيرة تتعلق بالشرعية والمساءلة الديمقراطية" للحكومات الغربية. وتماشيا مع الاتجاه العام لمركز الأبحاث المذكور، استخدم ليفين التسريب لرفع مستوى الحذر في ما يتعلق بدعم الغرب لكييف.
ولكن بعيدا عن حروب السرديات، ما الذي تقوله لنا الوثائق المسربة عن حالة الحرب؟
ركّز الباحثون تركيزا كبيرا على الضرر الناجم عن تسريب المعلومات التي يمكن أن تكون مفيدة للمخططين العسكريين الروس؛ خاصة قبل فصل الربيع، حيث يُتوقع حدوث هجمات أوكرانية جديدة بعد تحسّن الطقس. ولكن الحقّ أن "السر العسكري" الذي جرى تسريبه إلى العالم بأسره ليس فيه فائدة كبيرة للخصم.
ولو أمعنّا النظر في المستندات المسربة عن كثب، لأمكننا أن نراها تتحدث عن قوة عزم الولايات المتحدة وحلفائها في "الناتو" تقديم دعم أكبر لأوكرانيا، رغم الموقف الحذر للرئيس جو بايدن الذي كان واضحا بأن الولايات المتحدة لا تريد أن تتورط في مواجهة مباشرة مع روسيا التي تمتلك قدرة نووية.
ومع ذلك، تظهر الوثائق التزام الولايات المتحدة ببذل كل جهد في تزويد أوكرانيا بالأسلحة التي تحتاجها. وتبين تفاصيل زيارة مسؤولين أوكرانيين لقاعدة عسكرية أميركية في فيسبادن بألمانيا أن محادثات جرت مع الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة، والجنرال كريستوفر جي كافولي، القائد الأعلى لقوات الحلفاء في أوروبا منذ العام الماضي. ويمكن القول إن ميلي وكافولي، يكرسان جهودهما، بكل المقاييس، في سبيل أوكرانيا وأنهما متفهمان لاحتياجاتها العسكرية. ليس فقط أمام الكاميرات ولكن في الاجتماعات الخاصة.
وكشفت وثائق أخرى سرا لم يكن خفيا عن وجود عدد قليل من القوات الخاصة من المملكة المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا وهولندا ولاتفيا. ولئن كانت موسكو وغيرها من أعداء كييف سيستخدمون هذا بالتأكيد كدليل على تواطؤ "الناتو" المباشر فلا ننسَ أن الوثائق تظهر عددا متزايدا من الدول الأوروبية التي تخصص الموارد والقوى البشرية لمساعدة كييف. ووفق بعض الوثائق، فإن تسعة من أصل اثني عشر لواء أوكرانيا "ذات قيمة قتالية" يسلحها "الناتو" ويدرّب قواتها عسكريون من الولايات المتحدة والحلف الأطلسي.
وفوق ذلك، تظهر الوثائق الجهد الكبير الذي تبذله الولايات المتحدة لحشد دول من جميع أنحاء العالم لتقف في صفّ كييف. وتظهر وثيقة حساسة بشكل خاص سعي الولايات المتحدة لإقناع الكوريين الجنوبيين ببيع قذائف إلى الولايات المتحدة لتدعم المخزونات المرسلة إلى أوكرانيا؛ دون انتهاك رغبة سيول في عدم تقديم مساعدة فتاكة مباشرة إلى كييف.