بريطانيا ليست مجرد "حلم" لوزيرة معادية للمهاجرينhttps://www.majalla.com/node/289301/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D8%B7%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A7-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D9%85%D8%AC%D8%B1%D8%AF-%D8%AD%D9%84%D9%85-%D9%84%D9%88%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%84%D9%85%D9%87%D8%A7%D8%AC%D8%B1%D9%8A%D9%86
ربما تشعر الأمة البريطانية بالحيرة أكثر مما تشعر بها أيّة أمّة أخرى في العالم. وهي بالتأكيد واحدة من أقدم الأمم، وفي كثير من الأحيان ينبع الإرباك الذهني من التقدم في العمر. وتلقى فكرة أن البريطانيين لم يغزهم غاز منذ عصر وليام الفاتح، الذي عُرِف في الأزمنة القديمة باسمٍ يتسم بالفظاظة: "اللقيط"، هوىً في نفس البريطانيين. وفي الواقع لا يمكن أن تكون أعطية الاحتلال أكثرَ عدائية من مثل هذا العطاء.
فالإجماع العام الذي تلقاه الفكرة "أننا لم نتعرض للغزو منذ ألف عام" ولا نزال – وعلى الرغم من عدم صحتها من الناحية الفنية – يجعل ادعاء وزيرة الداخلية سويلا برافيرمان بأنه "يجري غزونا" الآن عبر القنال الإنكليزي محط اتهام. هذه المرة لا يصل الغزاة في سفن كبيرة، بل يأتون في زوارق لا تصلح للملاحة البحرية. لكن لا يغرّنك المظهر، إنهم بمثابة قوّة غازية.
ففي ذات الحينِ الذي كانت فيه السيدة برافيرمان منهمكة بتوصيف "المهاجرين" على أنهم غزاة، فإن المشهد السياسي في بريطانيا يتسم أكثر فأكثر بتعدد الثقافات. وهذا هو حال وزيرة الداخلية نفسها، وهو الأمر الذي يبدو غريبا. فهي مهاجرة من الجيل الأول للمهاجرين الهنود، متزوجةٌ من يهودي متدين. وهي نفسها من الطائفة البوذية. فيما رئيسها هو أوّل رئيسِ وزراء هندوسي في بريطانيا، وكذلك كان سلفها في وزارة الداخلية منحدراً من خلفية هندية. في هذه الأثناء، وفي مجرّة مجاورة، يعتبر الوزير الأول الجديد في اسكتلندا مُسلما متدينا، وكذلك هو حال رئيس بلدية لندن. وعلى الجانب الآخر من البحر الأيرلندي، يتسنم منصب رئيس الوزراء شخصٌ من أصول هندية.
وعلى ما يبدو فقد أظهر أبناء وبنات – أو أحفاد وحفيدات - المهاجرين موهبة حقيقية في ارتقاء متنوعِ الطرائقِ في مناصبهم على هذه الجزر. فقد أخذت صور لحمزة يوسف، زعيم الحزب الوطني الاسكتلندي، وهو يؤمّ المصلين في مبنى بيوت هاوس "Bute House" وهو المبنى الأسكتلندي المكافئ لمبنى رئيس وزراء بريطانيا في 10 داونينغ ستريت.
إنها السابقة الأولى على الإطلاق لمسلم يصبح زعيما لأمة يغلب عليها الطابع المسيحي. وفي ذات الوقت الذي يوجد فيه سوناك في لندن ويوسف في إدنبرة، راجت طرفة على وسائل التواصل الاجتماعي مفادها أنّ هنديا وباكستانيا سيتسببان في تقسيم بريطانيا. فبصرف النظر عن وجهتي نظرهما بخصوص الاتحاد، فإنهما ينتهجان سياسات في غاية الاختلاف. إذ إنّ سوناك هو مَن ألقى علينا خطبة مِن على منبرٍ للكنيسة حاملاً شعار أوقفوا القوارب "Stop the Boats". لقد ارتبط المحافظون عاطفيا بشعارات تتألف من ثلاث كلمات منذ النجاح الكبير الذي أحرزه شعار "Take Back Control" (استعيدوا السيطرة) ومن أجل تنفيذ الشعار هذا، ابتُكر شعار "أوقفوا القوارب".
وزيرة الداخلية سويلا برافيرمان منهمكة بتوصيف "المهاجرين" على أنهم غزاةٌ، وهو الأمر الذي يبدو غريبا. فهي مهاجرةٌ من الجيل الأول للمهاجرين الهنودِ، متزوجة من يهوديٍ متدينٍ. وهي نفسها من الطائفة البوذية. فيما رئيسها هو أوّل رئيسِ وزراء هندوسي في بريطانيا، وكذلك كان سلفها في وزارة الداخلية منحدراً من خلفية هندية
استمتع بحياتك الجديدة في رواندا
قد نغفر للناس الذين يعيشون خارج بريطانيا اعتقادهم بأن أمة تفخر بتعدد ثقافاتها لا بد أن تتبنى موقفاً أكثر مرونة تجاه الأشخاص الذين يرغبون في الانتقال إليها. لكن الأمر الأكثر غرابة أكثر من أي شيء آخر هو كيف يمكن لأبناء المهاجرين أن يعارضوا بشدة قدوم مهاجرين جدد.
فقد أعربت برافيرمان عن بغضها الصريح للمتواجدين على شواطئ مقاطعة كِنْت. وقد أعلنت جهاراً أن ما "تحلم" به هو منع المهاجرين من القدوم إلى بريطانيا. وواصلت أيضاً بدعم من سوناك انتهاج سياسة سلفها القاضية بتهديد الأشخاص الذين نجحوا بالعبور بفزّاعة ترحيلهم إلى رواندا، ولكن هذا قد يجعل الأمور غير منسجمةٍ من وجهة النظر المعرفية أكثر من كونه مجرد فكر مناهض للمهاجرين.
فقد سافَرَت إلى رواندا بنفسها بعد أن حرصَت أولاً على إتاحة الفرصة لعدد قليل من الصحف اليمينية معرفة ذلك، ومن ثمّ زارت أماكن الإقامة التي يبنيها الروانديون للمهاجرين غير المرغوب بهم في بريطانيا. وظهرت على شاشات التلفزة، وهي تضحك أمام كتلِ البِنَاء هذه، وتعلن أنها مبانٍ مريحة ومزودة بجميع وسائل الراحة الحديثة.
وحتى أنها تمنّت بصوت عالٍ أن تتمكن من استخدام نفس مصمم الديكور الداخلي لتصميم منزلها. لكن رواندا بعيدة جداً عن إنكلترا للأسف. فإذا قام أي مهاجرٍ مُحتمل بعملية الموازنة بين إيجابيات وسلبيات المخاطرة بحياته عبر القنال فإن هذا الردع الذي تطبقه السلطات البريطانية سيمثُل أمام عينيه، وقد يتساءل إذا كانت سويلا برافيرمان تغريه بزورق كي يستمتع بحياته الجيدة في أفريقيا.
لم يسبق أن كانت الرسائل متضاربةً ومشوشةً إلى هذا الحد في السابق. فما الأمر الذي كان يراود تفكير السيدة برافيرمان بالضبط؟ إنّ إرسال رسائل متضاربة مشوشةٍ، ليس أمراً يُعمِل التفكير في ذلك كثيراً على ما أعتقد. فقد تحدّت صحيفة "الإكسبريس" البريطانية رئيس الوزراء أن يحلّ مشكلة "القوارب" في ستة أشهر. آهٍ، يا للسذاجةِ التي تبقى الصحافة اليمينية قادرةً على إبداءها في أغلب المناسبات.
إنه لمن دواعي الراحة عندما تفضل ألّا تمضي وقتاً طويلاً في التفكير بفنادق الرعاع الفاشيين المحيطة بك، والتي تؤوي المهاجرين، أو حتى في التفكير بآخرِ صيحةٍ لإيوائهم في بوارج أو سفن مهجورةٍ ترسو على السواحل فتبدو كسفنِ السجون القديمة.
ليس مجرد حلم لامرأة واحدة
إن السذاجة التي أشير إليها إنما هي التفكير بأن هذه السياسة المتناقضة على نحو صارخ، وغيرُ الإنسانيةٍ، وغيرُ القانونيةٍ، والقاسية كالسياسة التي تتبعها رواندا، سوف تجد طريقها للتحقق، لكن يبدو أنها لن تبقى مجرد "حلم" لامرأة واحدة، فيمكن القول إن تلك الفكرة ستساعد سوناك على اجتياز المذبحة التي تلوح في الأفق خلال الانتخابات المحلية المقررة في مايو/أيار.
وحتى أنها قد تبقي الموالين في حزب المحافظين سعداءَ وهم ينتظرون أن يخسر المحامون اليساريون قضاياهم المرفوعة ضد سوناك في المحاكم، هم وفاعلو الخير أمثالهم. من دون أن يخسروا هم أنفسهم قضاياهم ضده. فشعار "أوقفوا القوارب" في شكله الحالي هو سياسة مصممة عن قصد وبتخطيط، حيث يكمن جمال هذه الحيلة في أنه يمكِّنُ المحافظين من الشكوى لأمد طويلٍ من تخريب اليسار لهذا الشعار.
وكل ما أراد المحافظون فعله هو حلّ المشكلة، ووقف استغلال المتاجرين للأشخاص المستضعفين، ورؤية المعارضين المُضلِّلين لهذه السياسة وهم يحبطونها على الدوام. فمشكلة القوارب، وبعيداً عن كونها تشكل مشكلة بالنسبة للمحافظين في الانتخابات المستقبلية، تعتبرُ مصدر قوة لهم. فالفشل في منع القوارب يبقي التظلمَ قائما.
أما بالنسبة لهذه الظاهرة الغريبة المتمثلة في أنّ أحفاد المهاجرين هم أشد المعارضين للهجرة حماسة: فلعلّ القصد أن الطريقة الصحيحة الوحيدة لدخول بريطانيا هي الطريقة التي اتبعها آباؤهم، سواء بسبب طلبهم اللجوء، أو تأمين فرصةٍ لتحسين أوضاعهم.
وبالعودة إلى الوراء، لقد تحدث العضو الراحل في حزب المحافظين إينوك باول عن "نهر التيبر الذي تعلوه رغوة كبيرة من الدماء"، في خطابه المثير للجدل الذي ألقاه عام 1968 بكلماته التي وصفت بالعنصرية تجاه المهاجرين، وكان لدى مارغريت ثاتشر رؤاها عن إغراق بريطانيا بالمهاجرين. فيما حملت تيريزا ماي معها إرث بيئةٍ معاديةٍ للمهاجرين، وقد كان لديها شاحنات صغيرة تتجول في المناطق التي قد يختبئ فيها مهاجرون غير شرعيين، وقد كتب عليها عبارة "Go Home" (عودوا إلى دياركم).
عندما يعارض "مهاجر" المهاجرين
فهل نجحت أيٌ من تلك السياسات في وقف المهاجرين؟ حسناً، هذا يعتمد على معنى كلمة "النجاح". لقد ساعد ذلك باول بالتأكيد في أن يصبح شخصاً مشهوراً ويحتفل به العنصريون. وربما ساعد ذلك ثاتشر في انتخابها. وكذلك ساعد هذا تيريزا ماي في أن تبدو وكأنها تقوم بفعل شيء ما.
لقد اتسمت هذه الأساليب بمزيجٍ من المبالغة والتعابير الملطِّفة، بينما لم يكن أي من هؤلاء الأشخاص الذين دافعوا عن هذه الأجندات من المهاجرين. فقد كانوا دائماً يَظهرون كما لو أنهم يتحدثون نيابةً عن الأغلبيةِ البيضاء.
لكن في بريطانيا التي تتمتع بتكافؤ الفرص، يحق للجميع أن يكونوا ممتعضين. أما إذا كان هذا الشخص المتحدث من المهاجرين، فإن كلامه أيضاً يبقى متمتعاً ببعض القابلية للدحض. إذ يمكنهم قول الكثير من الأشياء دون الخوف من أن يعارضهم أحد ما، إذ لن يقول أي خصمٍ ليبرالي "كيف تجرؤ على المجيء إلى هنا وقول ذلك؟" فمعارضة مهاجر يقوم بمهاجمةِ المهاجرين يمكن أن تتحول بسرعة إلى قضيةِ تقريع للمهاجرين.
وسيتطلب الأمر أكثر من حالة عدم الانسجامٍ المعرفي اليومي لسحب هذا التقريع. وسيتطلب الأمر منك ذهنيتين، إحداهما مؤيدة للمهاجرين، والأخرى مناهضةٌ لهم.
إن السذاجة التي أشير إليها إنما هي التفكير بأن هذه السياسة المتناقضة على نحوٍ صارخ وغير الإنسانية وغيرُ القانونية والقاسية كالسياسة التي تتبعها رواندا، سوف تجد طريقها للتحقق، لكن يبدو أنها لن تبقى مجرد "حلم" لامرأة واحدة، فيمكن القول إن تلك الفكرة ستساعد سوناك على اجتياز المذبحة التي تلوح في الأفق خلال الانتخابات المحلية المقررة في مايو/أيار.
لكن ثمة طريقة يمكننا من خلالها تجنب هذه المفارقة: إذ يمكن للزملاء المهاجرين معارضة المهاجرين المتعصبين في أوساطهم. فكما أشار سوندر كاتوالا، الذي الذي يدير مؤسسة "المستقبل البريطاني" البحثية والمهتم بقضايا الهوية والأقليات، في مقال في صحيفة "الغارديان"، "يمكن للسياسيين الآسيويين والسود أن يختاروا أن يكونوا جسوراً أو محاربين ثقافيين كما يفعل زملاؤهم البيض."
وبالنسبة لنيلز آبي، الكاتب البريطاني النيجيري الذي ألف كتاباً بعنوان "فكّر كرجل أبيض"، فليس هناك تكافؤ بين المقاتلين البيض وغير البِيض. فالعنصرية "أكثر قابليةً للتسويق، وتواجه تحدياً أقل عندما تصدر عن رجال سياسةٍ ينتمون إلى الأقليات العرقية. ومن ثمَّ فإن أشخاصاً من أمثال سويلا برافيرمان وكيمي بيدنوخ (وزيرة دولة لشؤون التجارة) هم الأكثر خطورة، لأنهم يتمتعون بفعالية أكبر".
وفي حديثه على إذاعة LBC البريطانية، أصّر في نقاشه أن سويلا برافيرمان لم تكن "صديقة" للتنوع العرقي، بل إنها كانت بالأحرى أحد الأشخاص الذين يحيدون عن طريقه"، وذلك غايةَ أن يثبتوا مدى فعاليتهم "من خلال كونهم أقسى و" بكونهم وعاءً للعنصرية ذاتها التي نأمل أن يتخلصوا منها".
في هذا الموقف يكمن عنصر تعويضي زائد عن الحدِّ، لتلبية حاجة نفسية، فإضافة إلى الرغبة في الفصل بينهم وبين المهاجرين "السيئين"، فهناك أيضاً استخدام للتحيز العنصري كشكلٍ من أشكال التمويه، ومع القليل من الحظ، سيفشل الليبراليون في رؤية العنصري الظاهر على مرأى من الجميع، في حين أن العنصريين البيض سيجدون من المستحيل الاختلاف مع آرائك، ما دامت آذانهم تصغي بجهدٍ يفوق الذي تبذله أعينهم في النظر.
وإن نحن عرضنا أنفسنا لخطرِ الخضوع لقانون غودوين (نسبة الى لالكاتب الاميركي مايك غودوين الذي اعتبر ان اي نقاش يطول بين خصمين سيجعل احدهما يشبه الآخر بهتلر)، لنخسر النقاش إذا عقدنا تشبيهات بالحقبة النازية، فنسأل هذا السؤال: ألم يكن أدولف هتلر مهاجراً نمساوياً اعتقد الألمان أنه كان مسالما؟ لكن يجب أن نتوقف ونقلع عن إجراء مقارنة من هذا النوع على الفور. فهذا النوع من الأمور التي تجعل لاعب كرة قدم ومعلق تلفزيوني كغاري لينيكر عدوانيا للغاية.
لقد ظهر العنصري المتخفي، وهو يشتكي من أن أعضاء عصابات الاستدراج هم من البريطانيين الباكستانيين. يحمل بعض هذه الشكاوى وجهاً من الصحة، بينما وَجَدَ تقرير صادر عن وزارة الداخلية في عام 2020 أنه لا توجد أدلةٌ كافية تشير إلى أن هناك احتمالاً راجحاً ليكون أفراد تلك العصابات من الآسيويين أو السود مقارنةً بالأعراق الأخرى. ويتفق حزب العمال مع صحيفة "الغارديان" على أن "أغلب عصابات الاعتداء الجنسي على الأطفال [تتكون] من رجالٍ بيض" (15 ديسمبر 2020). ومع ذلك، يجب ألا يَدَعَ المرءُ شيئاً صغيراً كالحقائق يعيق تلك الصورة النمطية المفيدة!
إذ إن الهدف من كونك مهاجماً لدقيقة واحدةٍ ومن ثمّ كونك تتعرض لهجوم في الدقيقة التي تليها أولاً؛ ومن سياسة الردع المتمثلة في أن ترى الأمر ولا تراه ثانياً، ومن مشروع قانون الهجرة غير الشرعية الذي يفصح عن عدم شرعيته رابعاً؛ نقول إن الهدف من هذا كلّه هو تهريب القيم التي تتعارض بشكل مباشر مع برنامج التنوع خلسةً وتحت غطاءِ التنوعِ.
لم يكن تهريب العنصرية إلى مجتمعٍ متسامحٍ ومتعددِ الثقافاتِ أمراً سهلاً على الإطلاق، لكن ربما يكون المحافظون قد توصلوا في هذا المجال إلى ابتكار أكثر الأساليب إبداعاً حتى الآن ووضعها في قبضة جلالة برافيرمان وزيرة الداخلية.