فطرة الأجداد
من بداية الرواية حتى نهايتها يظل عالم جيلها الأول (الجد والجدة في القرية) وقيمه ثابتين على حالهما في تصور الراوي وتصور غسان. فالقرية في تصورهما معين حياة متقشفة، هانئة، راضية ومطمئنة، لا يشوبها التنازع ولا الاضطراب في القيم والعلاقات والأحكام. فالقرويون يعيشون في وئام وسلام فطريين في كنف الطبيعة وسكينتها. كأنما حكمة الأجداد المتوارثة تتكفل تلقائيا وبلا سؤال تسيير شؤون الحياة وتيسيرها على نحوٍ متناغم يخلو من القلق. والأرجح أن هذه الصورة عن حياة الأجداد القرويين صنيعة فكرة رومنطيقية أدبية عن عالم الريف، منظورا إليه من عالم المدينة.
وربما هذا ما تمثله أو ترمز إليه آلة العود الموسيقية التي لا يحمل غسان سواها في رحيله من القرية إلى نيويورك. وهي الآلة التي كان يسمع نغماتها عندما "يضرب جده بأنامله" أوتارها "مدندنا مقام الحب الحنون (...) فيسبح في مقامات عربية تعانق روحه، وهو يستمع إليها باستئناس يذيبه عشقا بالعود وجده". وما الجد والعود وأنغامه في هذا المعرض سوى كناية أو رمز لتلك الحياة الهانئة التي يحياها الأجداد في القرى مطمئنين، غير منفصلين عن فطرتهم. وهو الانفصال الذي يبادر إليه غسان مدفوعا برغبته المحمومة في الخلاص من عنف والده الأسري وجيله ومن عنف الحرب الأهلية.
جيل العنف واللعنة
يبدو الجيل الثاني في "إفرح يا قلبي" جيل خراب تلك الفطرة القروية أو تخريبها. ويمثّل ذاك الجيل والدُ غسان الذي يقرر العزوف عن إلقاء تحية الوداع عليه عندما يغادر قرية جده الوادعة الرضيّة، والتي يحمل صورتها معه إلى نيويورك، فرارا من عنف والده وشراسته وخياناته لأمه الطيّبة المسكينة البسيطة، والمستكينة إلى فطرة ثقافة الأجداد التقليدية المتوارثة.
أما الجيل الثالث في الرواية فمسترسل في ضياعه وتمزقه اللذين نجا منهما غسان على خلاف إخوته: "أخوه عفيف تخلى عن العائلة والحياة وصار له أب وإخوة في الحركة المتطرفة، ولا يريد غسان أن يراه إلى الأبد. وأخوه طارق يسكن في بيروت ويعمل مصورا صحافيا على جبهات الحرب، وصولا إلى العراق. أما أخوه سليم فلا يعلم أين مكانه". ويتكشف في سياقات السرد الروائي أنه تعرض إلى عنفٍ شديد من والده، هزّ كيانه وكينونته الإنسانية وحطمها وحطم هويته الجنسانية، ما أدى إلى اختفائه. وهذا أخوه جمال الذي يخبرنا الراوي أن غسانا لم يعلم بمقتله الفاجع. فقد هاجم مسلحون من الحركة المتطرفة منزل أهل صديقه وجاره جورج، فقتلوهما برشقات من رصاص بنادقهم، فيما هما جالسان في المنزل.
وحدها أمه المسكينة قبّلها غسان قبل مغادرته. وهي بطيبتها وفطرتها تنتمي إلى جيل الجد، وليس إلى الجيل الثاني التي هي منه. فالنساء في الرواية براءٌ من العنف الذكوري أو الرجولي الذي يستبد بالرجال، ويقع جيل الأبناء الثالث ضحيته.
على مدار السرد في الرواية تروح تتواتر وتتشابك قصص وحكايات عن هذه الأجيال الثلاثة:
- الجد والجدة جيل الثبات الفطرة، ورمز حنين غسان إلى الحياة القروية الهانئة المتقشفة وحكمتها.
- الجيل الثاني يغادر تلك الحياة إلى تصدع القيم والعلاقات في المدينة وزمن الحرب.
- الجيل الثالث يتضاعف تصدعه وتمزقه حتى الضياع والقتل.
ربما وحده غسان من هذا الجيل يجد لتصدعه وتمزقه مسارات قابلة لأن يتعايش معها. أين؟ في نيويورك إلى جانب كريستين الأميركية. وهناك يألف ازدواج هويته الثقافية والعاطفية والموسيقية، ويقرأ إدوارد سعيد ويستلهم منه دروسا تساعده في فهم حياته ومشاعره. أما إخوته فيغرقون في لجة الضياع والتيه، فيما أبناؤهم، أي الجيل الرابع، تتوارد وتتواتر أخبارهم بين البلاد وتوزعهم في المهاجر.