العالم كما رسمه سقوط بغدادhttps://www.majalla.com/node/289246/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D9%83%D9%85%D8%A7-%D8%B1%D8%B3%D9%85%D9%87-%D8%B3%D9%82%D9%88%D8%B7-%D8%A8%D8%BA%D8%AF%D8%A7%D8%AF
سقطت بغداد قبل عشرين عاما. الرقم المدوّر هو الأقل أهمية في الذكرى هذه. فما تركه سقوط العاصمة العراقية تتجاوز اثاره وتداعياته حدود العراق. لقد أسس الحدث لتغيرات جاثمة على صدور العرب والعالم. وليس مبالغة القول ان كل ما رمى اليه غزو العراق واقتحام بغداد، قد اعطى نتائج معاكسة لما أُعلن من اهداف.
حتى اليوم، لا يزال الغموض يكتنف أسباب الغزو الأميركي. مقولة من ثلاثة أركان راجت عشية الاجتياح لتبريره: إطاحة حكم صدام حسين. تفكيك أسلحة الدمار الشامل العراقية. ملاحقة الارهابيين الذين يقيمون في العراق وطردهم منه في إطار الحرب العالمية على الإرهاب التي انطلقت ردا على هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 الإرهابية.
بيد أن أيا من الأركان هذه لا يصمد أمام المساءلة والتفكير. لم تكن شيطنة صدام حسين جديدة في 2003. بل ان الرجل كان محور حملة سياسية وإعلامية أميركية نشطة منذ غزوه الكويت في 1990. طوال عقد التسعينات، شكّل صدّام "العدو المفضل" للولايات المتحدة التي كانت تلجأ اليه او بالاحرى الى ضربه كلما بدا أن ثمة ضرورة لذلك في سياساتها الداخلية او الخارجية. عرقلة عمل المفتشين الدوليين كانت ذريعة لعملية "ثعلب الصحراء" في 1998 التي قال العديد من السياسيين الاميركيين انها ارتبطت، بالأحرى، بإجراءات عزل الرئيس بيل كلينتون في إطار فضيحة علاقته بمتدربة في البيت الابيض، أكثر مما تتعلق بعمل اللجنة الدولية الخاصة بالعراق والعقبات التي واجهتها.
التناقضات في تفسير دوافع الغزو في 2003 حمل جاك بيتي على استعادة كلام السياسية الفرنسية والناجية من المحرقة النازية سيمون فاي، وفحواه ان "الخطأ الأكبر في كل الدراسات عن الحرب... يكون في اعتبارها فصلا من فصول السياسة الخارجية في حين أنها عمل من أعمال السياسة الداخلية، والأفظع من بينها خصوصا". الكتابات الأميركية الاخيرة الباحثة عن تفسيرات خارج الرواية الرسمية وخارج نظريات المؤامرة سواء بسواء، تتفق على ان الغزو كان نتيجة تراكمات في الادارات الاميركية منذ ما قبل هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 ومحاولة ربط نظام صدام حسين بها هي ايضا.
"الخطأ الأكبر في كل الدراسات عن الحرب... يكون في اعتبارها فصلا من فصول السياسة الخارجية في حين أنها عمل من أعمال السياسة الداخلية، والأفظع من بينها خصوصا"
سيمون فاي
المشهد إذاً، يتألف من مراكز قوى تبحث عن أدوار لها في قلب السياسة الاميركية. وصعود "المحافظين الجدد" ورؤيتهم الايديولوجية الى العالم والى دور أميركا فيه كمؤتمنة على قيم الحرية والديموقراطية. أجواء الانتقام من صفعة 11 سبتمبر/أيلول والسعي الى استعادة المكانة التي هزها الهجوم الارهابي لإفهام العالم أن أميركا لا تزال قادرة على فرض نفوذها مهما كان الثمن.
مقولات خصوم اميركا عن السيطرة على النفط العراقي وتأبيد الهيمنة الغربية على الشرق الاوسط، تفتقر هي ايضا الى التماسك.
في هذا المعنى وعلى هذه الخلفية، جاء احتلال العراق ليختتم حقبة ويؤسس لواحدة جديدة مستمرة حتى اليوم. و"الثمن" الذي لم تهتم الولايات المتحدة بجعل المنطقة العربية أولا والعالم أجمع يدفعه، لا يني يُسفر عن وجوه غير مألوفة.
لا مفر هنا من استدراك. فـ"جمهورية الخوف" التي أقامها صدام حسين لا يمكن الدفاع عنها ولا نسبة أية فضيلة اليها. كانت آلة للرعب السلطوي والطغيان المنظم لمصلحة فئة قليلة ذات انحيازات جهوية وطائفية فجة مغلفة بشعارات العروبة والوحدة والاشتراكية. بيد أن المعضلة تمثلت في استعصاء اسقاطها من الداخل سواء بالمعارضة السياسية التي استمرت حتى اواخر السبعينات الى حين القضاء على الحزب الشيوعي العراقي ومن بعده "حزب الدعوة" اوائل الثمانينات، او من خلال الانتفاضات الكردية التي كانت تشتعل ثم تخبو وفقا لعوامل محلية واقليمية متشابكة، من مثل المقايضة التي انجزها حكم البعث مع شاه ايران محمد رضا بهلوي في اتفاقية الجزائر في 1975 والتي افضت الى القضاء على الحركة الكردية المسلحة التي خنقها الشاه مقابل تنازلات اقليمية من العراق.
بينت "الانتفاضة الشعبانية" (نسبة الى شهر شعبان الذي شهد اندلاعها) لشيعة الجنوب بعد هزيمة القوات العراقية في الكويت في فبراير/شباط 1991، والانتفاضة الكردية في الشمال والمآلات التي وصلتا اليها من مجازر في مدن الجنوب الشيعية وتهجير واسع النطاق في الشمال ومطاردات لم تتوقف الا مع إنشاء منطقتي الحظر الجوي، أن النظام العراقي وإن اصيب بضربة قاسية بعد احتلاله الكويت، لا يزال أقوى من معارضيه مجتمعين ومنفصلين، عسكريا على الاقل.
الاستعصاء هذا والذي ادت فيه خلافات المعارضة العراقية وتنابذ اطرافها دورا رئيسا، حسّن في نظر المعارضين فكرة اقتلاع النظام البعثي بالاستعانة بقوة خارجية. وعند إبلاغ الاميركيين أطراف المعارضة العراقية ان الولايات المتحدة قررت اطاحة حكم صدام حسين، تقدم همّ التخلص من نظامٍ ارتكب ما لا يحصى من مجازر في حق مواطنيه، على ضرورة التأمل في ما يمكن أن يفضي اليه جلب قوة عظمى مثل اميركا الى العراق. كان ذلك بمثابة "إدخال الثور الهائج الى متجر الخزف" حيث أطاحت قرونه القاسية معادلات حساسة وتوازنات دقيقة اقتضى التوصل اليها انهارا من الدماء وكانت المنطقة تتعايش معها، على مضض وبقدر كبير من الألم، من دون عناية حقيقية بما سيجري في اليوم التالي، ولا بتخطيط جدي لعواقب اجتياح بلد في قلب الشرق الاوسط تُختزل فيه تواريخ صراعات ومرارات لا توصف.
أسس الغزو الأميركي لسلسلة طويلة من التغيرات، كما سلف، لم تقتصر على الشرق الاوسط. لعل من أهمها أن تُطرح على بساط البحث مسألة سيادة الدولة والحق في إسقاط أنظمة الحكم بواسطة قوة عسكرية اجنبية، على نحو لم يسبق له مثيل منذ الحرب العالمية الثانية.
فالحدود الدولية المعترف بها، شكلت منذ انتصار الحلفاء في 1945 نوعا من المحرمات التي يُحظر انتهاكها. حتى الحروب العربية – الاسرائيلية التي يجوز استخدامها كدليل على ازدواج معايير الدول الكبرى، ظلت القرارات الدولية في شأنها تؤكد رفض كل عمليات الضم الاسرائيلية واعتبار الجولان وسيناء والضفة الغربية اراضي محتلة. محاولات موسكو منع الانهيار السوفياتي في دول البلطيق في المرحلة الاولى من سقوط الاتحاد، ومحاولات بلغراد ضرب النزوع الاستقلالي في كرواتيا وسلوفينيا اثناء تفكك الفيدرالية اليوغوسلافية، عبر إرسال ارتال الدبابات، قوبلت بتنديد دولي صارم.
لكن المفارقة الكبرى كانت ان الخلاف بين صدام حسين والغرب اندلع بسبب غزو الرئيس العراقي جارته الكويت وإقامته حكومة دمية له فيها في أغسطس/ آب 1990. وهو ما سيَرى عدد من المراقبين ان الاميركيين كرروه في 2003. ذرائع صدام لاحتلال الكويت كانت غير مقبولة عربيا (باستثناء لدى ما عرفت يومها بـ"دول الضد") ودوليا. ثمة إجماع على ان الخلاف العراقي – الكويتي حول أسعار النفط واستخراجه من المنطقة المحايدة وتسديد ديون بغداد جراء الحرب العراقية – الايرانية الى الكويت، ما كان يجب ان يصل الى اجتياح دولة شقيقة وجارة تتمتع فوق ذلك بالسيادة والاعتراف الدولي.
الأهم ان الولايات المتحدة رأت في الغزو العراقي للكويت ضربة للمناخ الذي بدأ يتكرس مع سقوط جدار برلين في العام السابق وتوالي سقوط حكومات اوروبا الشرقية الشيوعية بحيث بات محسوما أن الانهيار السوفياتي مسألة شهور قليلة فحسب. وهو بالفعل ما تحقق بعد عام من غزو الكويت عندما فشلت المحاولة الانقلابية التي نفذتها مجموعة من المتشددين في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي في أغسطس/آب 1991 وكانت بمثابة طلقة الرحمة في رأس الدولة السوفياتية المنهكة.
من دون الاسترسال في سرد تفاصيل الخطأ القاتل الذي ارتكبه صدام حسين بغزوه الكويت، والمحاولة البائسة لالقاء المسؤولية عنه على ديبلوماسية اميركية من الصف الثالث هي أبريل غلاسبي التي يقول مؤيدو صدام انها "شجعته" تشجيعا غير مباشر على الهجوم على الكويت، فإن الخطأ هذا حمل في طياته كل ما يستفز الدول الكبرى ويتحدى المزاج الدولي في تلك اللحظة التي انتشرت فيها احلام (أو أوهام) الخروج من الحرب الباردة.
اضرار لا تُرمَّم في النظام العالمي
في المقابل، شكّل الغزو الاميركي للعراق في 2003، تجسيدا لجنون العظمة (ميغالومانيا) عند القوة الكبرى التي تغلبت اعتباراتها الداخلية على القوانين الدولية والمقررات الدولية في شأن العراق. لا يغيب عن بال، ان بغداد فتحت قبل شهور قليلة من الاجتياح الاميركي كامل المواقع التي كان المفتشون الدوليون يطلبون زيارتها، واصدر رئيس اللجنة الدولية الخاصة هانس بليكس في اواخر فبراير/شباط 2003، اي قبل اقل من شهر من بدء العمليات العسكرية الاميركية، تقريره الشهير عن خلو العراق من اسلحة الدمار الشامل. بيد أن القرار الاميركي احتلال العراق كان متخذا قبل عام وبُلِّغ الى العديد من القوى الدولية والعراقية المعارضة.
ضرْبُ إدارة بوش الإبن كل ذلك بعرض الحائط، كان بمثابة طعنة عميقة لما تبقى من منظومة الأمن العالمي التي مثلتها في مرحلة سابقة، على سبيل المثل، مساعي الامين العام كوفي انان الذي افلح في التسعينات في تجنب جولة اخرى من المواجهة العسكرية بين واشنطن وبغداد. فشهادة وزير الخارجية الاميركي كولن باول وصورته المتداولة حاملا انبوبا زجاجيا صغيرا مماثلا لِما قال انه يحتوي على سلاح بيولوجي اعده العراق (تبين عدم صحته لاحقا وابدى باول ندمه على انزلاقه الى تلك الدعاية) ارتقت الى مستوى استغباء المجتمع الدولي عن سابق تصور. وهو ما افضى إلى رفض فرنسا وألمانيا المشاركة في التحالف الذي اعلنه بوش لاسقاط حكم صدام حسين. في حين رفضت تركيا السماح للقوات الاميركية دخول العراق من الشمال ما لم تحصل انقرة على "حق" احتلال قسم من كردستان العراق.
وإذا كانت الدولة الأقوى التي يفترض انها تتمتع بقدرة فائقة على جمع المعلومات والتحقق منها وبناء قراراتها على الحقائق وليس على النيات والتصورات الايديولوجية، تتصرف على هذا النحو، فما المانع من ان يغدو سلوكها عبرة ونموذجا لجميع من يجد في نفسه القوة لتطبيق مشاريعه وليس فقط أخذ حقه، بيده وبيد جنوده وطائراته اذا توفرت؟
استعصاء التغيير من الداخل حسّن في نظر المعارضين العراقيين فكرة اقتلاع النظام البعثي بالاستعانة بقوة خارجية. وعند إبلاغ الاميركيين أطراف المعارضة العراقية ان الولايات المتحدة قررت اطاحة حكم صدام حسين، تقدم همّ التخلص من نظامٍ ارتكب ما لا يحصى من مجازر في حق مواطنيه، على ضرورة التأمل في ما يمكن أن يفضي اليه جلب قوة عظمى مثل اميركا الى العراق
أنتج ذلك العودة الى سياسات القرن التاسع عشر التي تتوسل "حروب الاختيار" وليس "حروب الضرورة". وحلت "ديبلوماسية حاملات الطائرات" مكان "ديبلوماسية البوارج" السيئة الذكر. بكلمات ثانية، تغيرت جذريا المقاربة المعروفة عن "الحرب المشروعة" و"الحرب غير المشروعة"، واستؤنف نهج "إسقاط القوة حيث يمكن" حتى لو لم تجد غطاء قانونيا دوليا أو اخلاقيا. وصعد خطاب "الحرب الاستباقية" الذي لا يُلزم أصحابه انفسهم الكشف عما لديهم من أدلة وإثباتات في شأن إعداد العدو للهجوم وإلحاح توجيه الضربات الاستباقية اليه لإجهاض خططه، بحجة ان الكشف عن الادلة سيؤذي التخطيط ويعرض سلامة "جنودنا" للخطر.
والدول الأصغر التي كانت تبرر عدوانها على جيرانها بخوفها من التعرض لمفاجآت غير سارة قد تقضي عليها نهائيا- اسرائيل مثالا لا حصرا- لم تعد تبالي كثيرا بمستوى العنف الذي تمارسه ضد خصومها، خصوصا إذا كانوا أضعف منها وأقل تنظيما وتسليحا.
أصيبت منظومة الامن العالمي في أسسسها القانونية والسياسية. ولم يعد ممكنا للمجتمع الدولي ممثلا بالأمم المتحدة ومجلس الأمن توجيه انتقادات الى تفلّت اية دولة من السلوك السلمي والجنوح الى العنف. فلماذا تجوز ادانة ما جرى في الشيشان، مثلا، اذا غض العالم النظر عما سيجري في العراق؟ ولماذا تصح اطاحة حكومة معترف بها دوليا- سيان اذا كانت شرعيتها منقوصة او كاملة – مثل الحكومة العراقية على يد القوات الاميركية ولا يصح غزو اوكرانيا والسعي الى احلال نظام موال لموسكو بدل الرئيس فولوديمير زيلنسكي؟
من العسير في الذكرى العشرين لسقوط بغداد اجراء مقارنة دقيقة لما كانت عليه سياسات الهوية والولاءات الطائفية والجهوية والاثنية قبل الاجتياح الاميركي وبعده. هذا الاخير، وإن كان بريئا من تدخلات ضخّمت الولاءات تلك وجعلتها المعطى الاول في بناء اي سلطة، أي دفعت العوامل السياسية جانبا لمصلحة تصدّر العوامل الاهلية، ما دون السياسية، للمشهد العام
المبررات والدوافع باتت هي الاخرى في مستوى المهزلة. فأنبوب المادة السامة الذي رفعه كولن باول امام مجلس الامن، والعالم استطرادا، لا يحمل صدقية تفوق مخاوف روسيا من تمدد حلف شمال الاطلسي "الناتو" الى حدودها وشعورها ان الحلف يخطط لتفكيكها والقضاء عليها كبلد موحد. السؤال الأهم: أي ذريعة تكتسي وجاهة ونصيبا اوفر من الحقيقة ومن التماس مع الواقع؟ الجواب الذي جعله احتلال العراق وسقوط بغداد، الجواب الرائج هو: من يمتلك قوة البطش، يمتلك الحق في تنفيذ رؤاه.
كان الجواب هذا وصفة مضمونة لأسئلة تتعلق بالشعارات التي رفعها المحافظون الجدد في واشنطن. فآلاف القتلى المدنيين في قصف لا يميز بين أهداف عسكرية ومسالمة واستخدام الطائرات من دون طيار في اغتيالات تسفر غالبا عن "ضحايا جانبية" أكثر من الافراد المستهدفين وما جرى في معتقلات قندهار وغوانتانامو تلك السرية في الدول الحليفة لواشنطن وهي افظع مما كشف عنه في أبو غريب، تذهب كلها في اتجاه تأييد اتهام الغرب بالانتقائية في الالتزام "بالقيم الكونية" التي يروج لها. ناهيك عن ان الفشل المدوي في بناء شكل قادر على العمل من مؤسسات الدولة في افغانستان والعراق وحلول طالبان في الاولى وحلفاء طهران في الثانية كقوى حاكمة، يسلط الضوء على عبثية المحاولات التي بذلتها واشنطن لاقامة انظمة موالية لها في البلدين.
كانت تلك جائزة ثمينة لاعداء الديمقراطية وحقوق الانسان وتداول السلطة والحريات العامة والفردية في كل العالم. ويصعب تصور كيف كانت ستكون الصورة في العديد من الدول التي صعد فيها الاستبداد والفرد المتسلط لو لم تطلق الولايات المتحدة النار على شعاراتها في العراق. كما ان الشعبوية والنزوع الى التطرف وتدهور قوى الوسط، ازدهرت على نحو غير مسبوق.
ما كشفه الغزو وما ستره
يضاف الى ذلك، ان سقوط بغداد شكل مقدمة لجملة من الاحداث العاصفة في العالم العربي لا تزال تتدافع حتى اليوم. منها انكشاف حقيقة البعد الطائفي في الاجتماع العربي وفشل محاولات بناء الدولة الوطنية التي تضم مواطنين متساوين امام القانون. اذ بيّن النظام الذي اقامه الاميركيون في العراق، ان الحقيقة الوحيدة التي تعترف بها الفئات العراقية هي حقيقة الانتماء الطائفي والاثني: شيعة وسنة واكراد وتركمان وأيزيديون وكلدان وأشوريون... على هذا الاساس بُني عراق ما بعد سقوط بغداد. وعلى مثاله سارت دول مثل سوريا التي انهار نظامها، البعثي هو الآخر، وظهرت الانتماءات الطائفية والاثنية كعنصر لا يمكن الالتفاف عليه في اي بحث حول مستقبل الحكم في سوريا.
بعد ذلك وقبله، من العسير في الذكرى العشرين لسقوط بغداد اجراء مقارنة دقيقة لما كانت عليه سياسات الهوية والولاءات الطائفية والجهوية والاثنية قبل الاجتياح الاميركي وبعده. هذا الاخير، وإن كان بريئا من تدخلات ضخّمت الولاءات تلك وجعلتها المعطى الاول في بناء اي سلطة، أي دفعت العوامل السياسية جانبا لمصلحة تصدّر العوامل الاهلية، ما دون السياسية، للمشهد العام، على غرار ما فعلت ايران عن وعي كامل، إلا انه (الغزو) قدّم المسوغات لتفسخ القشرة الرقيقة التي كانت تغطي الخطاب الرسمي العربي. وحلت بذلك عوامل التضامن الاهلي الطائفي والفئوي كعنصر وحيد في تشكيل الجماعة التي لم يعد في الامكان نسبتها الى وطن متعدد حتى ضمن اطار فيديرالي، على ما دلت حرب 2006 – 2008 السنية الشيعية.
الغزو والسلطة التي عيّنها ورعاها، في المقابل، أرجآ كل بحث في التنمية والعدالة الاجتماعية ودور القانون وتوازن السلطات والديموقراطية والمصالح الخارجية وجعلا من "التوافق" شرطا لمنع شرور الحرب الاهلية من العودة في حين ان "التوافق" هذا يعطل السعي الى بناء الدولة بمؤسساتها واجهزتها الخارجة عن اطر الولاءات الفئوية.
سقط طاغية فنهض ألف
هناك، إذاً، طغيان لا يحول ولا يزول، يُمَارَس باسم العروبة والقومية والبعث والاشتراكية وتحرير فلسطين والتصدي لمؤامرات الغرب و"الفرس". اخفقت كل محاولات إسقاطه وإضعافه او حمله على تغيير ممارساته. وهناك غزو اجنبي بادر الى اسقاط الطغيان هذا وجلب الى السلطة مجموعة متنافرة من القوى التي دلت اعوامها العشرون في الحكم على انها ليست في وارد الاعتراف بما يتجاوز مصالحها الضيقة او حتى رؤية نفسها كجزء من كل اكبر واوسع. فهل كان بقاء الطاغية السابق ارحم للعراق واقل خطرا على المنطقة؟ بكلمات ثانية: الاستبداد او الاحتلال وما يجلبه من أشكال حكم وفوضى؟
نظرة واسعة الى العالم بعد سقوط بغداد تُظهر ان العديد من رؤساء الدول فسروا اجتثاث نظام صدام حسين وفق مصالحهم. الأكثرية من بينهم قررت ان درء ذلك المصير عنها يكون بإطلاق الرعب على المجتمع وانهاكه للحيلولة دون تكوين أي بديل من الحكم القائم، حتى لو كان على شكل البديل الذي جاء بعد صدام حسين. التسلط والممارسة الاعتباطية للقانون اللذان باتا من ميزات العقد الثالث للقرن الجديد، ما كانا ليصلا الى المستوى الذي نشهده اليوم لو لم تسقط بغداد بالطريقة التي سقطت فيها.