لعلّ الإجراءات الأمنية المبالغ فيها التي استقبل بها الرئيس الأميركي جو بايدن حال وصوله إلى أيرلندا الشمالية للاحتفال بالذكرى السنوية الخامسة والعشرين لاتفاق الجمعة العظيمة (GFA) تعد أصدق مقياس للهشاشة التي يتصف بها السلام في أيرلندا الشمالية، فقد كانت هذه الترتيبات الأمنية أكبر من أي اجراءات مشابهة شهدتها السنوات الأخيرة.
تجلى الشعور العميق بعدم الاستقرار الذي يسود المقاطعة عشية وصول بايدن، عندما وجد ضباط شرطة أيرلندا الشمالية أنفسهم عرضةً للقنابل الحارقة التي ألقاها الجمهوريون المنشقون، والذين ما زالوا يعتقدون أن أيرلندا الموحدة هي أفضل حلٍّ للنزاع القائم في المنطقة منذ فترةٍ طويلة.
لقد اندلعت الاضطرابات بعد أن نظّم الموالون للجمهوريين مسيرةً غير قانونيةٍ في مدينة لندنديري كي يحيوا الذكرى السنوية لانتفاضة عيد الفصح التي جرت عام 1916، عندما سعى القوميون الأيرلنديون الى شنّ تمردٍ ضد الحكم البريطاني، والذي سحقه جيش بريطانيا وقتها بوحشية. ويقال إنّ المسيرة نظمها "سوراد" (Saoradh)، وهو الجناح السياسي للجيش الجمهوري الأيرلندي الجديد، وعندما حاولت الشرطة التدخل في معقل المنشقين بمقاطعة كريغان أُلقي عليهم ما يقدر بنحو 20 قنبلة حارقة.
جاء تصاعد العنف الطائفي في المقاطعة عشية زيارة بايدن ليذكّر في الوقت المناسب بأنه على الرغم من التقدم الكبير الذي أُحرِز داخل المقاطعة في السنوات الأخيرة، فإن التوترات الأساسية التي سبق وأدت إلى 30 عاما من العنف بين الكاثوليك والبروتستانت لا تزال تمثل تهديدا كبيرا.
وكان توقيع رئيس الوزراء البريطاني آنذاك توني بلير، ونظيره الأيرلندي بيرتي أهيرن، على اتفاق "الجمعة العظيمة" في أبريل/نيسان 1998، قد أدى إلى إنهاء حقبةٍ تُعرف باسم الاضطرابات في أيرلندا الشمالية، والتي أودت بحياة ما يقدر بنحو 3568 ضحية من كلا طرفي الصراع الطائفي.
ليس هناك شكٌّ في أن هذا الاتفاق قد أثر بعمقٍ على تنمية المقاطعة في السنوات الخمس والعشرين الماضية، في ظلّ توقف الأعمال العدائية، وهو ما أتاح الفرصة لجيلٍ جديدٍ لينمو في مجتمع يتمتع بالسلام والازدهار على نحوٍ متزايد، ويخطو أيضا خطوات مهمة باتجاه تحقيق مصالحة أوسع بين الجماعات المختلفة.
وكما أشار كريس هيتون هاريس، وزير الدولة البريطاني لشؤون أيرلندا الشمالية، عشية زيارة بايدن، فإن أيرلندا الشمالية قد حطمت العديد من الحواجز التي كانت تعمّق انقسام الجماعات فيها. فالترتيبات الأساسية التي لم يكن من الممكن تصوّرها في ذروة الاضطرابات، كتنعّمِ الأطفال بفوائد التعليم المتكامل، أصبحت اليوم في متناول الجميع، كما أدت الجهود المبذولة لإنهاء الانقسامات طويلة الأمد بين المجتمعين البروتستانتي والكاثوليكي إلى إنشاء نظامِ خطوط حافلات يوميٍّ يربط بين شرق وغرب بلفاست.
ليس هناك شكٌّ في أن هذا الاتفاق قد أثر بعمقٍ على تنمية المقاطعة في السنوات الخمس والعشرين الماضية، في ظلّ توقف الأعمال العدائية، وهو ما أتاح الفرصة لجيلٍ جديدٍ لينمو في مجتمع يتمتع بالسلام والازدهار على نحوٍ متزايد، ويخطو أيضا خطوات مهمة باتجاه تحقيق مصالحة أوسع بين الجماعات المختلفة
وتركت التغييرات التي أتاحها الاتفاق تأثيرا عميقا على الاقتصاد المحلي، الذي شهد تغيرا في ثرواته عبر أكثر من عقدين من السلام. فبصرف النظر عن واقع أن أيرلندا الشمالية تتمتع بقطاع سياحةٍ ينبض بالحياة، فإنها تعد اليوم موطنا لصناعة السينما والتلفزيون ينبض بالحياة، وهي الصناعة التي أنتجت أعمالا ناجحةً للغاية، مثل أفلام "زنازين وتنانين" (Dungeons & Dragons) الذي عُرض مؤخرا، وفيلم "الشرف بين اللصوص" (Honor Among Thieves) وسلسلة "لعبة العروش" (Game of Thrones). كما تفخر أيرلندا الشمالية أيضا بشركات هندسية رائعةٍ، وقطاعٍ إلكتروني جاذب للاستثمارات الدولية الكبيرة.
وكما أشار هيتون هاريس، "تعد أيرلندا الشمالية اليوم مركزا للمهارة والابتكار، وهو ما كان من غير الممكن تخيّله في العقود التي سبقت عام 1998".
ومع ذلك كلّه، تزداد المخاوف- وسط الاحتفالات التي جرت بمناسبة توقيع الاتفاق- من تجدد بعض التوترات الطائفية التي أدّت إلى اندلاع الاضطرابات في أواخر الستينات وبروزها إلى السطح مرةً أخرى، وهو تطور سيحرص بايدن ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك على معالجته أثناء حديثهم مع القادة السياسيين المحليين خلال القمة.
سيُمضي بايدن خلال زيارته التي تستغرق أربعة أيام، يوما واحدا فقط في أيرلندا الشمالية، وسيختار قضاء بقية وقته في أيرلندا، حيث سيحيي ذكرى جذور أسلافه في مقاطعتي لاوث ومايو.
إن أحد الأسباب التي حملت بايدن على مروره السريع بأيرلندا الشمالية هو أنّ جمعية ستورمونت (Stormont)- وهي الهيئة التي أنشأها اتفاق "الجمعة العظيمة" لإنشاء ترتيب مشترك لتقاسم السلطة بين الكاثوليك والبروتستانت- قد تم تعليقها منذ أن سحب الحزب الديمقراطي الاتحادي (DUP) دعمه لها، وهو الهيئة السياسية الرئيسة التي تمثل المجتمع البروتستانتي.
ينبع رفض الحزب الديمقراطي الاتحادي المشاركة في الجمعية من عدم رضاه عن بروتوكول أيرلندا الشمالية، وهو اتفاق بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة بشأن ترتيبات التجارة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فعلى عكس بقية الأقاليم المكونة للمملكة المتحدة، التي يمكنها إجراء ترتيباتها التجارية بشكل مستقل عن لوائح الاتحاد الأوروبي، لا تزال أيرلندا الشمالية خاضعةً لقانون الاتحاد الأوروبي بسبب حدودها المشتركة مع جمهورية أيرلندا. يستمر هذا الترتيب على الرغم من الجهود التي بذلها سوناك مؤخرا لتحسين الصفقة، والمعروفة باسم "إطار ويندسور" (Windsor Framework)، والتي سعت إلى تخفيف قيود الاتحاد الأوروبي على التجارة في المقاطعة.
لقد أدى رفض الحزب الديمقراطي الاتحادي المشاركة في اجتماعات مقر البرلمان في ستورمونت، والمستمر منذ اتفاق سوناك على الإطار مع الاتحاد الأوروبي، إلى زيادة التوترات السياسية، ولا سيما مع الجمهوريين المنشقين الذين لم يقبلوا أبدا شروط اتفاق "الجمعة العظيمة"، والذين ما زالوا ملتزمين بإقامة أيرلندا موحدة، حتى لو أدى ذلك إلى اللجوء للعنف.
وفي حين سينصب التركيز الأساسي لزيارة بايدن دون أدنى شك على تسليط الضوء على التقدم الهائل الذي تم إحرازه لإحلالِ السلام في أيرلندا الشمالية خلال الـ25 عاما الماضية، فإن هذه الزيارة ستكون أيضا بمنزلة تذكيرٍ قوي بهشاشة السلام في الإقليم، وهو السلام الذي لا يمكن اعتباره أمرا مفروغا منه طالما بقيت توترات الانقسام الطائفي قائمة.