قانون "سانت لاغيه" العراقي

حراك تشرين والمستقلون في العراق يواجهون انتكاسة سياسية بسبب طريقة حسابية معقدة لاحتساب عدد أصوات الناخبين

Getty Images
Getty Images
مجلس النواب العراقي بعد تصويت على الثقة لمجلس الوزراء برئاسة محمد شياع السوداني - بغداد، في 27 أكتوبر / تشرين الأول 2022

قانون "سانت لاغيه" العراقي

على وقع الهتافات الغاضبة للقوى المدنية والمستقلة خارج مبنى مجلس النواب وداخل قاعته، مرّر مجلس النواب العراقي في 27 مارس/آذار الماضي تعديلات على قانون انتخابات مجلس النواب ومجالس المحافظات رقم 12 لسنة 2018، في إجراء مثير للجدل، إذ يرى المعارضون أنه يلغي كل المكاسب السياسيّة التي تمخضت عن حراك أكتوبر/تشرين.

وتُعيد التعديلات الجديدة العمل باعتبار كل محافظة من محافظات العراق دائرة انتخابية واحدة، وليست كدوائر متعددة، فضلا عن إعادة العمل بـطريقة حسابية معدَّلة بصيغة عراقية لفرز عدد الأصوات، تُعرف باسم "سانت لاغيه"، نسبة إلى عالم الرياضيات الفرنسي أندريه سانت- لاغيه.

وسيُقسَّم عدد الأصوات التي تحصل عليها الكتلة المرشحة في أكبر دائرة انتخابية، على القاسم الانتخابي 1.7، وليس على الرقم 1، الأمر الذي سيُصعِّب على القوى الناشئة والمستقلة تحديدا الحفاظ على مقاعدها التي حصلت عليها في الدورة البرلمانية الحالية، إذ سيتم اختيار أكبر الأرقام الناتجة عن حاصل القسمة على أرقام فردية (3، 5، 7) لجميع الدوائر الأخرى، وبموجب تلك النتائج سيُحدد عدد المقاعد.

وأثارت تلك الطريقة الحسابية المعقدة حفيظة التيار المدني والمستقل، الذي يراها طريقة ملتوية، لأنها تلغي مفهوم الفائز الذي يحصل على أكثر عدد من الأصوات، والذي أُعتمد في الانتخابات الأخيرة في أكتوبر 2021، كما تلغي الانتخاب الفردي، وهو نظام انتخابي ينتج عنه فوز مرشح واحد.

وبناء على التعديل الجديد، فستكون هناك ثمان عشرة دائرة انتخابية فقط بعدد المحافظات، بدلا من 83 دائرة كما كانت الحال في الانتخابات الأخيرة، وهو ما يعتبره المعارضون بمثابة انتكاسة سياسية وتقويض لفرصهم المستقبلية لصالح الأحزاب السياسية المترسخة.

أثارت الطريقة الحسابية المعقدة لفرز عدد الأصوات الانتخابية حفيظة التيار المدني والمستقل، الذي يراها طريقة ملتوية، لأنها تلغي مفهوم الفائز الذي يحصل على أكثر عدد من الأصوات، والذي أُعتمد في الانتخابات الأخيرة في أكتوبر 2021، كما تلغي الانتخاب الفردي، وهو نظام انتخابي ينتج عنه فوز مرشح واحد. 

الهيمنة على السلطة 

ويتزامن التعديل على قانون الانتخابات مع اتساع دائرة السخط الشعبي في المحافظات الجنوبية ذات الغالبية الشيعية، التي تعاني من تدهور شديد في الخدمات الأساسية، واتساع رقعة البطالة، علاوة على سيطرة الفصائل المُسلحة على المنافذ الحدودية وعقود الخدمات والإعمار.

كما أن هناك عزوفا سياسيا ملحوظا متمثلا في نسبة المشاركة الضئيلة في الانتخابات الأخيرة في أكتوبر عام 2021، إذ قدرتها المفوضية العليا للانتخابات بـ 41% فقط من بين الذين يحقّ لهم الاقتراع. 

فعاقب العراقيون في الانتخابات الأخيرة القوى السياسية التقليدية، اذ ظهر جيل جديد من الشباب، يرفض الأحزاب القريبة من إيران، ويطالب بالحد من نفوذها، والتوجه في العلاقات الاقتصادية والسياسية نحو العرب والغرب، مع التوازن في العلاقات مع إيران وواشنطن. 

Getty Images
رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني يدلي ببيان بعدما منح البرلمان الثقة لمجلس الوزراء في  بغداد، في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2022

ويرى مراقبون أن القوى التقليدية التي تسيطر على مجلس النواب، ولا سيما بعد انسحاب التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر من المشهدين التشريعي والسياسي، تحاول إيجاد قانون يضمن عودتها مُجدداً إلى السلطة وهيمنتها عليها، ويُقصي خصومها من القوى المدنية التي حقّقت اختراقاً كبيراً في الانتخابات الماضية بحصولها على 50 مقعداً في البرلمان من أصل 329. 

ويقول الخبير في شؤون الانتخابات أثير إدريس إن "القوى المسيطرة على صناعة القرار السياسي، تحاول دائماً صناعة أنظمة انتخابية آنية من أجل ضمان بقاءها في السلطة".

وتشجّع التعديلات الجديدة على قانون الانتخابات على تشكيل تحالفات طائفية ومناطقية، وهو ما يتعارض مع مطالب المجتمع الواضحة في تجاوز خطوط الانقسام الاجتماعي التي تفاقمت طوال العقدين الماضيين.
 

تحاول القوى المسيطرة على صناعة القرار السياسي دائماً صناعة أنظمة انتخابية آنية من أجل ضمان بقاءها في السلطة.

وتشجّع التعديلات الجديدة على تشكيل تحالفات طائفية ومناطقية، وهو ما يتعارض مع مطالب المجتمع الواضحة في تجاوز خطوط الانقسام الاجتماعي التي تفاقمت طوال العقدين الماضيين.

وتكسب القوى السياسية الكبيرة من التعديل على قانون الانتخابات، الحفاظ على مقاعد كتلتها حتّى في حال تسلم أحد الأعضاء الفائزين منصباً، أو استقال أحدهم أو توفي، إذ تضمن التعديلات أن يكون البديل القائمة الانتخابية نفسها، بعد أن كان  يحل محله، في القانون السابق، المرشح الذي حصل على العدد الأقل من الأصوات في الدائرة ذات الصلة. 

وقال إدريس، لـ"المجلة"، إنّ العراق لا يمتلك نظاما انتخابيا ثابتا، لأن القوى المسيطرة على صناعة القرار السياسي، لا يخدمها، فبدأت في الانتخابات الأولى بالقائمة المغلقة، (والتي لا يمكن للناخبين التعبير عن أية خيارات أو تفضيل أي من المرشحين عن غيرهم أو تعديل ترتيبهم)، وانتقلت إلى جعل المحافظة دائرة انتخابية واحدة، ووصولا إلى استخدام صيغة "سانت ليغو" العراقية والهدف منها إقصاء القوى السياسية الناشئة، على حد وصفه.

وأشار الى أن الأحزاب الناشئة غير قادرة على المنافسة في صيغة "سانت ليغو"، لأن الأحزاب الكبيرة "فصلت قانون الانتخابات على مقاسها"، كما أنه من الصعب جمع القوى الناشئة في تحالف واحد بسبب اختلاف الآراء والتوجهات وضعف التجربة السياسية.


وضرب الخبير القانوني العراقي مثلا بالعاصمة بغداد، التي يبلغ سكانها حوالي تسعة ملايين نسمة، وتحتاج إلى دعاية انتخابية بكلفة باهظة تبلغ ملايين الدولارات، وهو ما تعجز عنه القوى الناشئة، على عكس الأحزاب المتنفذة التي يتهمها ناشطون وحقوقيون بالفساد، مضيفا أن اعتماد قانون الانتخابات الجديد يبرهن على عدم رغبة تلك الأحزاب في تغيير المشهد السياسي، وهو ما قد يؤدي إلى اتساع رقعة مقاطعة الانتخابات المقبلة. 

وشكك إدريس في استقلالية مفوضية الانتخابات وفق النظام الراهن "لأن أعضاءها سيكونون من ممثلي الأحزاب السياسية في مجلس النواب". 

ولدى سؤاله عن النظام الانتخابي الأمثل للعراق، أجاب إدريس بأن اعتماد الدوائر الصغيرة سيمنع التزوير وسيساعد مرشحين من أهل المنطقة وعلى دراية باحتياجات أهلها على الفوز وتمثيلهم في البرلمان، فيترشح أكثر من مرشح عن كل دائرة صغيرة يقطن منطقتها حوالي 200 ألف شخص، ومن يحصل على أكثر من نصف الأصوات يُعتبر فائزا. 

ويقول معارضون للتعديل الأخير إن "الإطار التنسيقي" الشيعي، الذي أصبح أكبر كتلة نيابية بعد انسحاب الصدريين في يونيو/ حزيران 2022، يسعى من خلال حكومة محمد شياع السوداني، إلى كسب ود الناخبين والتأثير عليهم بطرق عدة، من بينها زيادة عدد الوظائف الحكومية وسط تقارير عن توظيف أكثر من 800 ألف شخص في القطاع العام، ليتجاوز إجمالي عدد الموظفين أربعة ملايين شخص، بزيادة قُدرت بـ 25% مقارنة بعام 2021، وهو ما يعزز قبضة قيادات الأحزاب المنضوية تحت مظلة "الإطار التنسيقي" والفصائل المسلحة. 
 

اعتماد الدوائر الصغيرة سيمنع التزوير وسيساعد مرشحين من أهل المنطقة وعلى دراية باحتياجات أهلها على الفوز وتمثيلهم في البرلمان، فيترشح أكثر من مرشح عن كل دائرة صغيرة يقطن منطقتها حوالي 200 ألف شخص، ومن يحصل على أكثر من نصف الأصوات يُعتبر فائزا. 


 

Getty Images
المئات من العراقيين يرفعون لافتات ويرددون هتافات أثناء تجمعهم في مظاهرة للمطالبة بالعدالة للذين قتلوا خلال انتفاضة 2019 في ساحة التحرير ببغداد ، في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2021

"التعنت السياسي"

وقدم أكثر من 50 نائبا من المستقلين والقوى الناشئة طعنا لدى المحكمة الاتحادية لإبطال التصويت البرلماني الذي أجاز التعديل الأخير، معترضين على  صحة الإجراءات التي اتبعها مجلس النواب، ومن بينها عدم تصويت اللجنة القانونية على مشروع القانون، ومن ثم عرضه على النواب لمناقشته والتصويت عليه، بحسب عضو مجلس النواب المستقل عن محافظة النجف هادي السلامي.

وقال السلامي لـ"المجلة" إن "قوة من الجيش دخلت قاعة مجلس النواب، وطردت النواب المستقلين منها بالقوة خلال احتجاجهم على القانون"، وأشار الى أن النظام الانتخابي متعدد الدوائر يخدم العراق والأجيال المقبلة، لأنه سيٌحاسب أعضاء مجلس النواب حول أدائهم، لافتا إلى أن النجف هي معقل الأحزاب الشيعية التقليدية، التي تكبدت هزيمة انتخابية صادمة، "لذلك أقرو نظام الدائرة الواحدة بعد شعورهم بالخطر، مع امتلاكهم القدرة على التأثير بالمال السياسي من خلال التزوير وشراء الذمم"، على حد وصفه. 
 
ويرى رئيس مركز التفكير السياسي إحسان الشمري، في تصريحات لـ "المجلة"، أن القوى السياسية التقليدية تسببت في أزمة شعبية وسياسية، فالعراقيون كانوا ينتظرون منها اتخاذ مبادرات لتحفيز المشاركة السياسية، إلا أنها ضيَّقت على المستقلين والقوى الناشئة. 

 وأضاف الشمري أن الطغمة السياسية الحاكمة مارست "التعنت السياسي"، متهما إياها بعدم العمل على إنهاء المحاصصة ومحاربة الفساد وإصلاح النظام السياسي، وإذا توحدت القوى المعارضة، فلن تلجأ إلى التظاهرات فحسب، بل ستنظم عصيانا مدنيا كما حدث في عام 2019. 

font change