يروي أبو بكر الصولي في "أخبار أبي تمام" إن أبا تمام مدح أبا دلف العجلي بالقصيدة التي مطلعها "على مثلها أربع وملاعب"، فلما ذكر موقعة ذي قار وبلغ إلى قوله:
مكارم لجّت في علوّ كأنما
تحاول ثأرا عند بعض الكواكب
فقال أبو دلف لمن عنده من أشراف العرب: "يا معشر ربيعة ما مدحتم بمثل هذا الشعر قط"، ثم أمر لأبي تمام بخمسين ألف درهم.
تدلّ هذه القصة، ومثلها الكثير من القصص، عن الشعراء ومن احتكوا بهم من سلاطين وأمراء ووزراء وقواد، على مكانة الشاعر وصنعته في عصور الحضارة العربية الذهبية. ومصدر هذه المكانة ليس المديح، وهو فنّ له قواعده وأبنيته وأصوله في الشعرية العربية الكلاسيكية، فكم من مدائح تهمل وتصبح طيّ النسيان، إلا أن القصائد الباقية في الذاكرة، وفي أمهات الكتب التراثية، هي قطعا أكثر من ذلك. فالشعر الكبير نتاج حضارة كبيرة، وهذا يتبدّي أكثر ما يتبدى في الحضارتين اليونانية والعربية، وهو نتاج العلاقة المتشابكة والمتداخلة بين الشعر والواقع الثقافي الحيّ، ومع ازدهار شتى مناحي التفكير والفنون والعلوم والفلسفة والعمران، وغيرها من مظاهر الحضارة وملامحها.
يأتي إعلان المملكة العربية السعودية العام 2023 عاما للشعر، منسجما مع هذه الرؤية، متكئا على الإرث العريق للشعر في الوجدان والفكر العربيين، كما يأتي في سياق طموح آخر يتمثّل في "استعادة" كبار الشعراء العرب الذين صنعوا عمارة التراث العربي ومكانته، ضمن السياقات التاريخية والجغرافية لأولئك الشعراء الذين ظلّ معظمهم، منفيا في الفضاءات الرمزية الشاسعة والمفتوحة، وفي العموميات المطلقة (المعلقات، الشعر الجاهلي.. إلخ)، الذي قسم الشعر حقبا وأزمنة وأنواعا وأنماطا، وأهمل تاريخية منتجي ذلك الشعر، كما أهمل في هذا الإطار الشعراء أنفسهم، وخصوصيتهم وفرديتهم. وقد امتدّ هذا التعميم إلى اختزال كبار الشعراء العرب في مسميات وتصنيفات مدرسية قائم معظمها على الأحكام المطلقة والتصورات المسبقة. فبتنا لا نعرف من امرئ القيس إلا "قفا نبك" ومن زهير إلا "سئمت تكاليف الحياة.."، وبتنا لا نعرف أبا نؤاس إلا شاعرا للخمريات والمثلية الجنسية، والمتنبي إلا شاعرا متكسبا مداحا، والبحتري شاعرا وصافا، والمعري شاعرا متشائما، وغير ذلك من أوصاف تجد أنه حتى محاولة تمثيل أشكال أولئك الشعراء (وغيرهم من الشخصيات التاريخية) في رسومات، تعتمد في الغالب على الصور النمطية المتخيلة عنهم، وكأنهم تحولوا بمرور القرون سطورا وأبياتا وأوزانا وتشابيه، وكفوا عن أن يكونوا أفرادا.
اقرأ أيضا: أبو العلاء المعرّي "لاجئا" في فرنسا
يأتي عام الشعر في سياق طموح "استعادة" كبار الشعراء العرب الذين صنعوا عمارة التراث العربي ومكانته، ضمن السياقات التاريخية والجغرافية لأولئك الشعراء الذين ظلّ معظمهم منفيا في الفضاءات الرمزية الشاسعة والمفتوحة وفي العموميات المطلقة
هذه التعميمات لا تنطبق بطبيعة الحال على النقاد والخبراء والمتخصصين في مختلف أوجه التراث العربي، وهم كثر بالمناسبة، ممن يلم بعضهم بمختلف جوانب التجربة الشعرية والحياتية لهذا الشاعر أو الأديب التراثي أو ذلك. لكنك ستجد على مستوى الوعي العام، رغم كثرة الدارسين وكثرة ما ينتجونه، دورانا ومراوحة في المواضع والأفكار والتعميمات نفسها منذ عقود وعقود، لا يكون الخروج عنها إلا بمقدار قليل مما يدخل في سياق القراءة التاريخية المعمقة لتجارب المبدعين وعوالمهم.
والتعميم في نهاية المطاف نتيجة من نتائج الشهرة، لكنه لا يعكس التداول الصحي والمنتج والبناء والمستدام. فخذ على سبيل المثال وليم شكسبير، كبير الشعراء الإنجليز، أو "متنبّيهم" كما يحلو للبعض المقارنة، أو خذ غوته في ألمانيا أو بودلير في فرنسا أو دانتي في إيطاليا أو ثربانتس في إسبانيا، وستجد أنه وبصورة لا تنقطع هناك سيل من الدراسات المتعلقة بهؤلاء المبدعين، والأعمال الفنية، السينمائية والتلفزيونية والإذاعية، المستلهمة من أدبهم، كما من سيرهم الشخصية، وسبل احتكاكهم بعصرهم، وطرق استمرارهم في العصور اللاحقة، وستجد بعضها يلقي أسئلة جادة حول هذا الموضع أو ذاك من سيرهم ودورها في مسيرتهم الإبداعية، كما ستجد طبعات مبسطة ومشروحة من أعمالهم الشعرية والمسرحية، هدفها الأوضح إقامة جسر تواصل بين الأجيال، واستمرار حضور الإرث الأدبي على مرّ الحقب والأزمنة.
الشعر العربي يعاني نقصا فادحا في هذا المجال، أي في سبل إيصال الإرث الشعري، القريب والبعيد والأبعد زمنيا، ونقله إلى الزمن الراهن. وإذا كان من إنجاز يمكن لتسليط الضوء على الشعر اليوم، مثل الإعلان آنف الذكر في السعودية، أن يحققه، فهو إيجاد طرق مبتكرة للتعامل مع الإرث الشعري، وفقا لخطط مدروسة لا تتوقف عند حدود الاحتفاليات والأمسيات الشعرية، بل تفكر في القراءات الجوهرية، وإعادة تقديم التجارب المهمة بطرق جديدة مبتكرة، وفي هذا الإطار تأتي مسرحية "معلقاتنا امتداد أمجاد" في السعودية، وسلسلة المختار من الشعر العربي القديم، مصنفة حسب الموضوع ومشروحة، التي أطلقها "مركز أبوظبي للغة العربية" وبلغت نحو 100 عنوان خلال عام واحد. إلا أن النقص ما زال كبيرا، والمبادرات مطلوبة، للانتقال بالشعر العربي من العموميات التاريخية والأحكام الجاهزة، إلى إعمال التفكير والمراجعة والنقد والتأمل، والتخلص من ذهنية التعظيم والتقديس، إلى ذهنية الدرس والفحص، ومن ضيق الأفق المدرسي الانتقائي، إلى المشهد الشعري الأوسع، وسنكتشف أن هناك جماليات كثيرة في الشعر العربي لم يلتفت إليها بعد، وأن هناك وقائع وسيرا وتأريخات وأوصافا وانطباعات تعيننا على رؤية القرون الماضية، وحياة الأسلاف وثقافتهم وانشغالاتهم وأزماتهم وأحلامهم واحتكاكهم بالثقافات الأخرى، على نحو أكثر قربا وحميمية وعمقا مما اعتدنا رؤيته إلى لحظتنا هذه.
ينبغي إيجاد طرق مبتكرة للتعامل مع الإرث الشعري، وفقا لخطط مدروسة لا تتوقف عند حدود الاحتفاليات والأمسيات، بل تفكر في القراءات الجوهرية، وإعادة تقديم التجارب المهمة بطرق جديدة مبتكرة
أبعد من ذلك، فالاحتفاء بالشعر، في زمننا هذا، يقتضي شأنه شأن الاحتفاء بالسينما والمسرح والموسيقى، الانفتاح على العالم بأسره، وليس على المحيط الإقليمي أو العربي فحسب، فالشعر ما زال يكتب، وبغزارة، في كافة أنحاء العالم، وبكافة اللغات، وإذا كان في الماضي، وحتى في زمن الحداثة القريبة نسبيا، مقتصرا إلى حدّ كبير على النطاقات الجغرافية واللغوية التي يكتب وينشر بها، فإنه في زمننا هذا، ومع تطور حركة الترجمة واتساعها، وانتشار تكنولوجيات التواصل، بات يمتلك قابلية الوصول إلى معظم اللغات بصرف النظر عن تباعد المسافات أو العوائق الثقافية واللغوية السابقة.
اقرأ أيضا: لهذه الأسباب ابن عربي هو الفيلسوف العربي الأعظم
الشعر، أيضا، ليس إرثا مجيدا فحسب، ولا نمطا جماليا مندثرا، لكنه كاللغة تماما كائن حيّ، متعدد الأنماط والأشكال والأصوات، ولم يعد ممكنا حصره في تعريفات جاهزة ونهائية، وهذا يستدعي نظرة أوسع وأعمق من النظرة الكلاسيكية القديمة، وبقدر ما أنه من المهم إيصال المنتج الشاسع للشعرية العربية على مدى القرون الماضية إلى العالم (وهي مهمة ما زال العرب مجتمعون قاصرين عن أدائها على نحو فعال)، فإنه من المهم بالتوازي مع ذلك أن يعكس الاحتفاء بالشعر في عامه، المدى العريض للتجارب الشعرية العربية في وقتنا الراهن، بما في ذلك داخل المملكة العربية السعودية نفسها.