بوند في مواجهة "مدقّقي الحساسيّات"https://www.majalla.com/node/289176/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A8%D9%88%D9%86%D8%AF-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%AC%D9%87%D8%A9-%D9%85%D8%AF%D9%82%D9%91%D9%82%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B3%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D9%91%D8%A7%D8%AA
نغفل أحيانا عن حقيقة أن واحدة من أشهر شخصيات أفلام الحركة استقت اسمها من عالِم طيور، إذ استعار إيان فليمنغ – والمعروف بحبّه للطيور – الاسم من مؤلف أميركي لأحد أدلة الطيور بعنوان: "طيور جزر الهند الغربية". وقد وقع الكتاب بين يدي فليمنغ خلال فترة إقامته في جامايكا، وأخبر زوجته بأن "هذا الاسم القصير هو اسم أنجلو ساكسوني خالٍ من الرومانسية، ومع ذلك فإنه يوحي بالذكوريّة، وهو الاسم الذي احتجت إليه ليولد جيمس بوند آخر". وفي مقابلة أجرتها معه مجلة "نيويوركر" عام 1962، أضاف فليمنغ: "عندما كتبت باكورة رواياتي في عام 1953، أردت أن يكون بوند رجلا مملا لا يكترث بما يقع للآخرين... عندما كنت أبحث عن اسم لبطل هذه الرواية، خطر ببالي أن جيمس بوند هو أكثر الأسماء المملة التي سمعتها قط".
ينظر بوند للنساء بوصفهن عناصر تشتيت ضرورية يجب الاستمتاع بهنّ، ومن ثم التخلص منهن. وعندما لا يفعل ذلك، فإنه في أفضل الأحوال يكون متعاليا، وفي أسوأ الأحوال يوجه إهاناته الصريحة لأشخاص من أعراق مختلفة
رقيق وحساس
ممل؟ من المدهش أنه لولا عالِم الطيور غير المعروف هذا، لربما كان اسم جيمس "جو" مثلا أو "جو بلوجز". لكن بدلا من ذلك، تحول الاسم إلى محور إحدى أنجح الأفلام السينمائية في العالم، وأصبح اسما مألوفا يُرمز به إلى الرجل البريطاني النموذجي المثير للاهتمام، نظريا على الأقل. وبالطبع، لهذه الشخصية مواقف ينبغي النظر فيها، ووفق تشارلي هيغسون، مؤلف كتب "بوند الشاب"، منح الممثل دانيال كريغ "ملامح جديدة للعميل 007، فجعله الرجل الرقيق والحساس الذي يدخل إلى الحمام في بدلة التوكسيدو الرسميّة لمواساة امرأة". وكان كريغ حريصا على ضمان مشاركة نساء قويات في سلسلة بوند، حتى إنه كشف أن اختياره لارتداء سروال السباحة الأزرق – الذي أصبح شهيرا الآن – في فيلم "كازينو رويال" (2006) جاء ليتحدى لباس السباحة التقليدي الذي ترتديه "نساء بوند".
دار الكثير من النقاش حول الأفلام، فماذا عن الروايات نفسها؟ غالبا ما عزّزت شخصية بوند التي قدّمها فليمنغ للعالم خيالات الاغتصاب، فبوند ينظر للنساء بوصفهن عناصر تشتيت ضرورية يجب الاستمتاع بهنّ، ومن ثم التخلص منهن. وعندما لا يفعل ذلك، فإنه في أفضل الأحوال يكون متعاليا، وفي أسوأ الأحوال يوجه إهاناته الصريحة لأشخاص من أعراق مختلفة. والأشرار الذين يلتقيهم هم من الأشخاص المنبوذين عادة، أي أشخاص مجانين أو ذوو إعاقة أو مشوهون، ويُعتبرون تجسيدا للشر، وغالبا ما يكونون من أصول أوروبية شرقية.
بالطبع، لا يحظى هؤلاء الأشرار بالنصر أبدا. على أي حال، وبعد المواجهات والهزائم التي ألحقها بوند بالأشرار على مرّ السنين، ربما التقى أخيرا عدوّه اللدود في المستقبل، والمتجسّد على هيئة مدقّق الحساسيات.
لكي يتخطى بوند الجديد التحديات، ليس عليه كبح جماح الإشارات التحقيرية والمواقف الذكورية وحسب، وإنما تعلم كيفية التصرف كمواطن عادي ومنضبط جيدا في القرن الحادي والعشرين
كراهية النساء
يقول البعض إن بوند يستحقّ ما يجري له وإن التشكيك في شخصيته محقّ. فثمّة حدود لعدد جرائم القتل المروّعة التي يمكن أن يتوقع حتى القاتل المتسلسل التملّص من عقوبتها. وإن امتلاك رخصة للقتل من صاحبة أو صاحب الجلالة يبدو في الواقع نوعا من الأعذار الواهية التي يقصد منها الإمعان في إزعاج الشخصية الأجنبية الشريرة.
لكن الأمر لا ينطبق كما يبدو على خصمه الأخير، لأن مدقّق الحساسية مستعدّ للتغاضي عن جرائم القتل العرضية. بل ما يستفزّ هذا المدقّق هو العنصرية والكراهية العرضية للنساء. إنها المواقف، وليست السلوكيات الصادرة عن هذه الشخصية الذكوريّة. ولا يوجد في العالم شيء يكرهه هؤلاء المدققون أكثر من التمييز الجنسي.
نميل إلى الاعتقاد بأن العصر الذي نعيش فيه يتسم بحساسية فريدة، ولكن يتّسم كل عصر ربما بنظرة مماثلة تعكس الرضا عن النفس. في الماضي، عندما كانت كلمة "ندفة الثلج" لا تزال تعني قطرة مطر متجمدة وليس شخصا حساسا بشكلٍ مفرط، لم يكن "الدكتور جونسون" ليتمكن من تحمّل نهاية مسرحية الملك لير. والأكثر إثارة للدهشة هو أنه بعد فترة وجيزة من انطلاق روايات بوند في عام 1958، وهو الوقت الذي كانت فيه كلمة يقظة تكتب بالإنجليزيةبصورة صحيحة لغويا أي awoke بدلا من woke، كانت السلوكيات السيئة لبطل فليمنغ تتعرض للنقد. ففي مجلة "ذا نيو ستيتسمان "، كتب بول جونسون مقالة بعنوان: "الجنس، والغطرسة والسادية" حيث أعلن أن "الدكتور لا" (Doctor No) هو – بالتأكيد – أكثر الكتب التي قرأتها شرا ... وقال: "في ثلث رحلة القراءة، اضطررت لكبح دوافعي القوية لرمي الكتاب بعيدا". وهو أدركَ أن بوند يرمز إلى "ظاهرة اجتماعية ذات أهمية معينة"، لكن ذلك بدا له عنصرا سلبيا، حيث ترتبط الظاهرة بـ "ثلاثة مكونات أساسية، كلها غير صحية، وكلها إنجليزية تماما: سادية المتنمر في المدرسة، والتوق الميكانيكي البدائي للفتيان المحبطين، والرغبات المتعالية للراشدين في الضواحي".من كان ليخطر بباله أن الناس كانوا حساسين في الخمسينات؟
وبعد تكليفه بمهمة تأليف قصة بوند جديدة تزامنا مع حفل تتويج الملك البريطاني الجديد في شهر مايو، طرح تشارلي هيغسون تساؤلا عبر إذاعة "راديو تايمز" حول قدرة بوند الأصلي على "العيش في عالمنا المعاصر، أم أن الحظر الثقافي سينجح حيث فشل سبيكتر في وضع حدا لبوند إلى الأبد". يمكننا القول إن نهاية بوند قد أتت بالفعل في صالات السينما. ففي فيلم: "لا وقت للموت" (No Time to Die)، يُقتل بوند عمليا عندما يُشار إلى تقاعده في جامايكا. لتؤول مهامه إلى لاشانا لينش، وهي من سكان لندن ذوي الأصول الجمايكية ومن جيل المهاجرين الثاني. إنها لحظة مدهشة توضح مدى التحوّل في مظهر بوند والابتعاد عن سلوكياته المعتادة، ولكنها تبيّن أيضا أنه بالنسبة إلى عالِم الطيور هذا، لا يوجد مكان للاختباء. وسرعان ما يعود بوند إلى روتينه القديم المتمثل في تفادي الرصاص، رغم أنه يفشل في تفادي صاروخ.
من يدري ما إذا كان بوند سيحظى بفرصة للنجاح في وجه مدققي الحساسيات وتدخلهم الحاسم؟ لكي يتخطى بوند الجديد التحديات، ليس عليه كبح جماح الإشارات التحقيرية والمواقف الذكورية وحسب، وإنما تعلم كيفية التصرف كمواطن عادي ومنضبط جيدا في القرن الحادي والعشرين. يمكنه الاحتفاظ بالأسلحة النارية، ولكن في جميع النواحي الأخرى عليه توخي الحيطة بشأن سلوكياته. من الآن فصاعدا، لا يستطيع أن يتصرف بتعجرف وتعالٍ تجنبا لأي إهانة.
إنها نسخة مختلفة تماما تفضي إلى السعادة من دون تشويق. ولكن، قد يكون ذلك بمثابة عودة إلى النية الأصلية لصانع هذه الشخصية الذي أرادها مملة أصلا.
رواية بوند الجديدة لتشارلي هيغسون ستحمل عنوان: "في خدمة صاحب الجلالة".