ما أوحى إليّ بهذا العنوان أعلاه هو ما كان الكاتب التشيكي ميلان كونديرا، الذي "طُرد تقريبا"على حدّ تعبيره، نحو فرنسا سنة 1975، كتبه في جريدة "لوموند" الفرنسية بعدما عمل، هو نفسه، على تدقيق معظم الترجمات الفرنسية لرواياته التي كانت قد حُررت بالتشيكية، فقرر ألا يعتبر الصيغة الفرنسية لأعماله مجرد ترجمة: "أعتبر النص الفرنسي كما لو كان نصّي أنا، وأسمح بنقل رواياتي إما عن اللغة التشيكية أو عن الفرنسية، إلا أنني أميل إلى تفضيل الاختيار الثاني".
فرار
ليست حالة كونديرا حالة خاصة، فقد عرف القرن الماضي نزوح كثير من الكتاب بعد الحربين، وخصوصا فرارا من ديكتاتورية بعض الأنظمة. فغيّر كثير منهم لغته في الكتابة بفعل متطلبات عملية أكثر منها جمالية، وأعيد النظر في الثنائي لغة/وطن، مما أدى إلى تراجع في قيمة اللغة-الأم. فانكبّ الكتّاب على نقل ما كانوا حرروه بلغاتهم الأصلية إلى لغات البلدان التي هجروا إليها. وهذه حال كونديرا نفسه، وقبله حال الروسي فلاديمير نابوكوف، فبعدما كان قد رسم مساره الأول كروائي باللغة الروسية خلال العشرينات من القرن الماضي، أصبح روائيا أميركيا، فأخذ ينقل نصوصه إلى الإنجليزية. وهي أيضا حال إميل سيوران الذي تبيّن أن الكتابة باللغة الرومانية لن تخرجه من منطقة الظل.
اقرأ أيضا: أدب المهاجرين: الهامش يجمعنا
الفرضية الأساس التي ينطلق منها هذا النوع من الكتابة-الترجمة هي أن الترجمة كلما استغنت عن التوسطات، ازدادت قربا من الأصل، إن هي لم تتطابق معه على الإطلاق. وأهم التوسطات هو المترجِم الذي ينصّب نفسه دخيلا بين النص وصاحبه، فيتولى أمر نقله إلى لغة أخرى. ماتتوخاه الترجمة الذاتية هو، أولا وقبل كل شيء، استبعاد هذا الوسيط. حينئذ تغدو الترجمة كأنها كتابة أولى. في إمكاننا إذا أن نقول إنها حالة تغدو فيها النسخة مطابقة لأصلها، وخصوصا أن المؤلف، على ما يبدو، هو الأشدّ قربا من نصه، هو المدرك لمعانيه وهو الأكثر دراية بلطائفه. المترجم في هذه الحالة هو المؤلف نفسه الذي يفترض أن يكون أوّل من لا تخفى عنه أسرار النصّ وتلويناته. فهو، مبدئيا، أجدر من غيره بإدراك معاني ألفاظه، ودلالات مجازاته، ومغزى عباراته. ولا حاجة له لتخمين ما يقصده واضع النصّ، ولا تحديد من يعنيهم ويتوجّه إليهم. فهو لن يترجم إلا بنات أفكاره، ولن يفصح إلا عما دار بخلده. وهو أدرى من غيره بما قاله النص وما سكت عنه، ما ألحّ عليه وما أغفله. فإن هو تكفل، هو نفسه، نقل ما كتبه إلى لغة أخرى، فإن ذلك لن يكون إلا إعادة كتابة، ولن يحصل قط ما يمكن أن يعتبر خيانة لأصل. كلّ ما يمكن أن يتمّ، لن يعدّ إلا تعديلا وتحويرا اقتضته اللغة المضيفة ومتلقوها.
كلما استغنت الترجمة عن التوسطات، ازدادت قربا من الأصل، إن هي لم تتطابق معه على الإطلاق وأهم التوسطات هو المترجِم الذي ينصّب نفسه دخيلا بين النص وصاحبه
فضاء اللغة
على الرغم من ذلك، يبدو أنّ هذه الترجمة-الكتابة تغفل توسطا آخر يتجاوز الذات المترجمة ويحضر في كل ترجمة بما هي كذلك، هو توسط اللغة الناقلة، الذي يجعل كل نص، حتى إن ترجمه صاحبه، ينتقل من لغة إلى أخرى، ومن فضاء ثقافي إلى آخر، ويتوجه إلى متلقٍّ مختلف. فحتى إن ظل صاحب النص هو هو، فإن كثيرا من المتغيرات ستتبدل. الأمر الذي يدل على أن الانتقال إلى لغة أخرى يبعد النص حتى عن صاحبه ويحرّره من رقابته.
يستدعي هذه الحجّةَ أولئك الذين يرون أن اللغة هي التي تترجم في جميع الأحوال. فحتى إن تمّت الترجمةُ على يد صاحب النص، فلا بدّ، في نظرهم، أن تُدخل اللغةُ الجديدة الضيم على الأولى و"تجذبها وتأخذ منها وتعترض عليها" بحسب كونديرا. بل إنّ هناك من يذهب حتى القول بأنّ المؤلّف لا يتملّك معانيَ ما كتبه حتى في لغته، ولا السيطرة على نصّه. فكل نصّ ينطوي، في نظرهم، على كثافة سيميولوجية تجعل، حتى صاحبَه، عاجزا أن يحصرها من غير انفلات "بقايا لا يقدر عليها" كما كتب التوحيدي. الكتابة ترسّب بقايا تنفلت من كل رقابة شعورية، وتجعل النصّ يفلت حتى من قبضة صاحبه. حتى المؤلفُ نفسُه لا يتمكّن من بسط سلطته على النصّ لحصر معانيه وضبطها، والتحكّم في المتلقّي مهما تنوّعت مشاربه اللغوية والثقافية.
يردّ البعض على هذا الاعتراض بالقول إن النصّ، بطبيعة الحال، سيطرأ عليه ما يطرأ عند كل ترجمة، إلا أنّ تكفّل صاحب النص نصه من شأنه أن يخفّف مخلفات الترجمة. وخصوصا أنّ محاولة نقل النصّ إلى لغة أخرى بالضبط، هي التي تكشف للمؤلف ما خفي عنه في النسخة الأولى، وما تضمنته كتابته "الأصل".
في هذا الإطار، لا بأس أن نشير إلى ما سبق لميلان كونديرا أن صرح به في أحد حواراته على الشاشة الصغيرة: "عندما تحيا بين لغتين، وعندما تُخضع لغتك لمراقبة لغة ما فتئتَ تُنقل إليها، فكما لو أن هاتين اللغتين تريان الواحدة الأخرى في مرآة، وكما لو أن كل كلمة تستعملها، فإنك تستعملها بأقرب ما يكون إلى الضبط والدقة". تغدو الترجمة هنا أداة للوعي بدلالات الأصل، في حدود اللغة. وهي التي ستكشف لصاحب النص اشتراك ألفاظه، ولبس معانيه، وتعدّد تأويلاته. حتى أنه يشعر أنّه لم يكن ليتبين هذه الصعوبات، ولا ليدرك ذلك الاشتراك واللبس، لولا سعيه إلى نقله إلى لغة أخرى. فكأنّ عملية الترجمة هي التي تسلّط الأضواء على النصّ الأصلي، فتكشف، حتى للمؤلف نفسه، ما تضمره اللغة الأصلية، بل إنّها تُبِين في بعض الأحيان عن نواقص "الأصل".
معنى الأصل
ولكن، ما معنى الأصل في هذا النوع من الكتابة-الترجمة؟ فإن كان الأصل هو ما صدر عن المؤلف، فنحن هنا أمام نصين يصدران معا عن المؤلف نفسه. فكأن الترجمة الذاتية تضع موضع سؤال التمييز بين الأصل والنسخة، بين المؤلف والمترجم، بين الإبداع والترجمة. أو لنقل، على الأقل، إن مفهوم الأصل يفقد فيها القيمة التي كانت تعطى إياه. فعندما يُدخِل المؤلف تعديلا على نصه عند نقله إلى لغة أخرى، لا نقول إنه يخون النص في هذه الحالة، بل نكتفي بالقول إنه يعدّله، أو يعيد كتابته. كأن النسخة هنا لا تتقيد بأصل. أو لنقل، على الأقل، إن النسخة تفقد هنا دونيتها، كي تغدو مكافئة للأصل. لعل ذلك ما دفع بعض الدارسين إلى القول إن الأصل، في هذا النوع من الترجمة، يوجد بين لغتين، وهم يستدلون على ذلك بحالة صموئيل بيكيت، إذ عندما قدمت إليه الأكاديمية السويدية جائزة نوبل، أخذت في الاعتبار مؤلفاته جميعها، المحرّرة بالفرنسية والمحرّرة بالإنجليزية، فكأنما اعتبرت النصّ الأصلي بين اللغتين.
عندما تكفّل جل هؤلاء الكتاب نقل مؤلفاتهم إلى لغات أخرى (وغالبا ما تكون هي اللغة المهيمنة، وقد بيّن راينر غروتمان أن معظم الترجمات الذاتية المعروفة تتخذ اليوم الإنجليزية هدفا)، فبدافع عدم ارتياحهم للترجمات التي كانت نقلت مؤلفاتهم. هذا ما نلمسه بوضوح عند كونديرا، وقبله عند نابوكوف الذي، بعدما اطلع على الترجمة الإنجليزية لروايته "الغرفة السوداء"، كتب سنة 1935:"هذه الترجمة تقريبية، مرتجلة، ممتلئة زلات ونقائص، تعوزها الدقة، وهي محررة بلغة إنجليزية من السطحية حتى أنني لم أتمكن من قراءة النص بأكمله. كل هذا يسيء إلى مؤلف يحرص في عمله على الدقة المطلقة، ويبذل قصارى جهوده كي يبلغ ذلك، فيتبين في النهاية أن المترجم يهدم كل جملة من جمل نصه".
إلا أن هناك عاملا آخر، إضافة إلى هنات المترجمين التي يشير إليها نابوكوف هنا، وهو يتعلق، هذه المرة، باللغتين اللتين يعتمدهما المؤلف-المترجم. فبعض المؤلفين يلجأون إلى نقل مؤلفاتهم إلى لغة أخرى، لما يلمسونه بين اللغتين من فروق. خير مثل على ذلك الترجمات الذاتية لصموئيل بيكيت. فالكاتب الإيرلندي لم يكن ليختار لغة "الأصل"جزافا أو لأسباب بعيدة عن الكتابة. فإن كان ينطلق في رواياته من الفرنسية، فـ"لجماليتها المتقشفة" كما بيّن أحد النقاد، وإن كان في مسرحياته ينطلق من اللغة الإنجليزية، فـ"لبراعة خطابها"، هذا إن سلمنا أنه ينطلق من نصّ أصل كما سبق أن رأينا، إذ إنه، وكما بيّن بعض المهتمين بأعماله، لم يكن يتعامل مع النصّين واللغتين كمترجم، ولم يكن يشعر في الحالتين كلتيهما أنه أمام أصول مكتملة، فهو كان يعيد الكتابة حتى وهو يترجم، ولم تكن الترجمة الذاتية عنده إلا إعادة كتابة.
لا يتعامل بيكيت إذا مع لغتين متكافئتين. فإن كانت الواحدة منهما تصلح منطلقا في ميدان، فالأخرى تكون أكثر ملاءمة في ميدان آخر. غير أن عدم التكافؤ هذا، لا يقتصر دوما على أسباب تعود إلى الأسلوب، إذ يمكنه أن يأخذ معنى أكثر خطورة، وذلك عندما تتم الترجمة بين لغتين لا تتمتعان بالقوةنفسها.
يتعلق الأمر إذا بمكانة اللغة، والقيمة التي تعطى إياها أدبيا والتي تعود لعراقتها وقيمة أشعارها، ورقيّ إبداعاتها وتقاليدها، والمفعولات الأدبية المتوقفة على مترجميها. هذا ما تشير إليه عبارات مثل "لغة الجاحظ"، و"لغة موليير"، و"لغة شكسبير"... هذه العلاقة المتشابكة بين اللغات لا تسمح لنا بأن نقيس قوتها ورأسمالها الأدبي بمعرفة عدد كتابها وقرائها، وإنّما لا بد أن نعرف أساسا عدد مزدوجي اللغة الذين تتوفر عليهم، وعدد المترجمين الذين يعملون على تيسير حركة النصوص وتناقلها، سواء تصديرا أو استيرادا، أي نحو اللغة أو انطلاقا منها.
النصّ يفلت حتى من قبضة صاحبه. حتى المؤلفُ نفسُه لا يتمكّن من بسط سلطته على النصّ لحصر معانيه وضبطها، والتحكّم في المتلقّي مهما تنوّعت مشاربه اللغوية والثقافية
قياسات
لا يمكننا أن نقيس، والحالة هذه، حالة مؤلف مثل بيكيت وهو يتردّد بين الإنجليزية والفرنسية على حالة الروائي الجزائري رشيد بوجدرة، أو المغربي عبد الله العروي، وهما يتردّدان بين العربية والفرنسية؟ فعندما يقيس بعض النقاد منا حالة كتّابنا الذين يعمدون إلى كتابة نصوصهم الأدبية باللغة الفرنسية أو الإنجليزية أوّلا كي ينقلوها هم أنفسهم في ما بعد إلى لغة الضاد، على حالة بيكيت على سبيل المثل، لا يبدو لنا قياسهم سليما لسبب أساس هو أن العلاقة بين اللغتين الفرنسية والإنجليزية، ليست كالعلاقة بين اللغة العربية وتينك اللغتين. إذ إنهما هما اللتان تحتكران اليوم "شهادة الأدبية". هناك إذا اختلاف شاسع في الشدة وفي الطبيعة بين علاقتي القوة هنا وهناك، وهذا أمر أساس لا يمكننا قطّ ألا نأخذه في الاعتبار عند الحديث عن الترجمة الذاتية وممارستها في هذا الفضاء أو ذاك.
اقرأ أيضا: الترجمة الآلية...حدود المفردة ومتاهة التأويل
من هنا يتجلى أن الاستياء من خدمة المترجم ليس كافيا وحده لتبرير لجوء المؤلفين إلى هذه الكتابة-الترجمة، وأن الأمر لا يقتصر دوما على انتقاء لغة بعينها لخصائصها البلاغية، وإنما هي عملية لـ"إضفاء الصبغة الأدبية"، وأداة لـ"الاعتراف الأدبي". إنها أحد الأشكال النوعية للصراع في الحيّز الأدبي الدولي. فنقل نص من لغة ضعيفة إلى لغة أشد قوة، هو سعي وراء ما يدعوه هؤلاء "النبالة الأدبية". يتعدّى الأمر إذا مجرد نقل إلى لغة أخرى، وإنما هو ارتقاء بالنص وتمكينه من العضوية داخل "الجمهورية العالمية للآداب".