أبو العلاء المعرّي "لاجئا" في فرنساhttps://www.majalla.com/node/289121/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A3%D8%A8%D9%88-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%B1%D9%91%D9%8A-%D9%84%D8%A7%D8%AC%D8%A6%D8%A7-%D9%81%D9%8A-%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D8%A7
رغم أنه عاش حياته "رهين محبسين: العمى والمنزل"، معتزلا الناس في مدينته معرة النعمان شمال سوريا، حيث أبصر النور سنة 973 وفقد بصره بوباء الجدري في الرابعة من عمره، وتوفي سنة 1057 شاعرا ونحوِّيّا وفيلسوفا كبيرا، شاءت أقدار أبي العلاء المعري وسوريا الحديثة أو المعاصرة أن يُنصب تمثال لرأسه في 15 مارس/آذار 2023 "لاجئا" في مدينة مونتروي الفرنسية، على مسافة 6 كلم من باريس.
مرآة للتاريخ السوري
المناسبة هي الذكرى الثانية عشرة لـ "الثورة السورية" سنة 2011. لكنها قد تكون مرآة لأحوال سوريا، أقله منذ عشرينات القرن العشرين، حين خضعت للانتداب الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى:
- في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، اثناء الحقبة الأخيرة من "النهضة الثقافية والسياسية" العربية الحديثة البادئة في نهايات القرن التاسع عشر، بدأت تُصنع لأعلام الأدب والسياسة في بلدان المشرق العربي تماثيل وأنصاب، وتنصبُ في الساحات العامة. وفي الأربعينات أنجز النحّات السوري الحلبي فتحي محمد قباوة تمثالا لأبي العلاء المعري، ونُصب في ساحة مدينته ومسقط رأسه معرّة النعمان. وكانت الحكومة السورية قد أصدرت سنة 1934 طوابع بريدية عليها صورة لأبي العلاء المعري، تخليدا لذكراه.
- منذ ثمانينات القرن الماضي دشّن النظام "البعثي" ظاهرة الولاء المطلق للشخصية الديكتاتورية، باعتبارها الشكل الوحيد للحياة السياسية السورية، فنصبت تماثيل الأسد وأنصابه وصوره العملاقة في الساحات والفضاءات العامة في مدن وبلدات سوريا، حتى على أكشاك أمنيّة صغيرة من اللبن العاري في خلاء بادية الشام المقفر. وهكذا هُمّشت ونُسيت سائر تماثيل الشخصيات الثقافية والسياسية في التاريخ السوري السابق على النظام الذي أجبر السوريين على الهتاف قائلين، إن الأسد "القائد الأول والأخير إلى الأبد".
- في العام 2011 ثار الشعب السوري ضد النظام. وفيما كانت تُحطم تماثيل وأنصاب وصور في الديار السورية، كان السوريون يهتفون في تظاهراتهم اليومية والسلمية طوال سنة ضد النظام، وماحق حياتهم وثقافتهم وتاريخهم.
- في العام 2013 دفع النظام "الثورة السورية" الى حرب أهلية مدمرة، وتدخلت قوى خارجية كثيرة، فبرزت منظمات راديكالية تكفيرية وظلامية إرهابية، وسيطرت على مناطق ومدن سورية كثيرة. وفي معرة النعمان عمدت تلك المنظمات إلى قطع رأس تمثال أبي العلاء المعري وسحله في الشوارع.
- منذ العام 2012 تستمر مأساة النزوح والتشرد السورية في أرجاء الأرض. وقد أسس الممثل السوري فارس الحلو مؤسسة "ناجون" التي تهدف إلى التعريف بالقضية- المأساة السورية، وإيجاد روابط بين المهاجرين ومواطن إقامتهم: ومن أعمالها صناعة تمثال لرأس المعري المقطوع في دياره، ونصبه في ديار الهجرة.
- في العام 2018 بدأت صناعة التمثال. وفي العام 2023 نُصب على مدخل مدينة مونتروي الفرنسية.
تفيد اللوحة التذكارية الرخامية على منصة التمثال، بأنه "لاجئ في مونتروي إلى حين تُمكِن عودته إلى سوريا حرة، خالية من الاستبداد والقتل والتطرّف والاحتلال"
عاصم الباشا
على مدخل المدينة - وهي كانت حتى ستينات القرن الماضي ضاحية لباريس، وتحولت مدينة مستقلة في إطار برامج التطوير الحضري المتبعة في فرنسا، ويسكنها اليوم مهاجرون فرنسيون من الأرياف، وسواهم من مهاجري الديار المغاربية والسورية والإفريقية - نصب تمثال رأس المعري. لكن اللوحة التذكارية الرخامية على منصته، تفيد أنه "لاجئ في مونتروي إلى حين تُمكِن عودته إلى سوريا حرة، خالية من الاستبداد والقتل والتطرّف والاحتلال".
يرفض الفنان السوري عاصم الباشا الذي أنجز التمثال فكرة تدميره السابقة "لأن العمل الفني يحيا بما يمثله وما يعبر عنه. وتدمير أي تمثال لا يعني تدميرا لما يمثله"، ويضيف في حديث مع الزميل شادي علاء الدين أن تذكر المعري في هذه اللحظة يرسل "تحية لفكره وإصراره، منذ ألف عام، على إمامة العقل، لكننا للأسف لم نتعلّم وما زالت الغيبيات تتحكّم بنا وتديم مكوثنا في الحضيض".
وعن خيار ترك مكان محجري العينين فارغا يقول الباشا: "كلنا يعرف أن رهين المحبسين كان كفيفا وأنه امتلك بصيرة مذهلة، ولم أجد ما يدعوني إلى ملء المحجرين وارتضيت العتمة تمثيلا، عسى العصافير تقف على عينيه".
نصب التمثال خارج سوريا قد يحمل دلالات متناقضة، يمكن أن تحيل إلى اعتراف بقوة التجربة الفنية السورية، وفي الوقت نفسه قد تشير إلى عمق المأساة وتستحضر مشاعر الغربة والألم وقسوة المنافي. ينظر الباشا إلى هذه الجدلية من زاوية خاصة معتبرا أن معرّة النعمان "ما زالت أرضا محتلّة من قِبل أعداء الحرية والكرامة أيا كان لونهم. لقد مكث العمل خمس سنوات محفوظا في مستودع غرناطي إلى أن وافقت مدينة مونتروي على منحه حقّ اللجوء ريثما تسنح فرصة عودته إلى مسقط رأسه".
ينهي الباشا تصريحاته لـ "المجلة" بموقف فكري يبدو مستوحى من روح المعري "أنا متمرّد بلا انقطاع فما من حال لا ينبغي تجاوزها. لا أؤمن بالثابت ولا بالمطلق".
في حضرة التمثال
في مونتروي، نقف دقائق أمام التمثال اللاجئ المنصوب في مدخل الشارع الرئيسي الذي يصل إلى مدينة مونتروي من باريس. نلتقط له وللمكان صورا في صبيحة نهار أحد مشمس. والآحاد الفرنسية تبدأ هادئة ويتأخر الناس فيها في الخروج إلى الشوارع. لكن السوق البلدي الشعبي الأسبوعي كان مزدحما منذ الصباح. رجل عابر قرب التمثال قال إن بلدية مونتروي قررت استضافته. أقامت حفلا في نهار إزالة الستار عنه. وقالوا إنه شاعر عربي كلاسيكي كبير في زمانه، وكان عقلانيا وفيلسوفا. وأضاف محدثنا الفرنسي أن المناسبة أنشأت بعض صلات بين سوريين ومغاربة وجزائريين وفرنسيين مقيمين في مونتروي.
تكثر في الشارع متاجر ومطاعم جاليات المهاجرين المغاربيين والأفارقة، وأضيفت إليها السورية في السنوات الأخيرة. وفي مقهى فسيح على الطريقة الأميركية، قبالة مبنى جديد لإيواء مسنين مقطوعين، جلس بضعة رجال أفارقة يتسامرون خارج الدار التي تأويهم. وحدثنا في المقهى رجل جزائري عن أبي العلاء المعري وتمثاله، فقال إن "مونتروي تندر فيها التماثيل. فهي مدينة جديدة، بعدما كانت ضاحية باريسية. حفزني حفل إزاحة الستار عن تمثال المعري على قراءة بعض أشعاره في الإنترنت".
في طريق العودة نقرأ على لوحة التمثال التذكارية تعريفا بالمعري بلغة فرنسية تناسب الذهنية الفرنسية: "شاعر ومفكر سوري. ضرير، لكن حياته وبصيرته حرتان. ندّد بالاستبداد السياسي والتطرف الديني منذ أكثر من ألف سنة. اعتبر أن العقل وحده هو الذي يقود إلى الحقيقة. عندما قام أهالي مدينته معرة النعمان ثائرين ومطالبين بالحرية في ربيع 2011، قصفها النظام السوري وحوّل المركز الثقافي فيها إلى مركز لاعتقال المتظاهرين السلميين، تعذيبهم وقتلهم. ثم احتل الجهاديون المدينة سنة 2013. وكانت جريمتهم الأولى قطع رأس تمثال المعري المنتصب على منصة وسط المدينة. بدأ التمثال حياته الجديدة سنة 2018 في مدينة غرناطة الإسبانية. نفذه النحّات السوري عاصم الباشا بتبرعات جُمعت من ناجين من المعتقلات والمقاتل السورية. هو رمز للسلام والثقافة والأواصر بين الشعوب والمدن والأجيال. ولكل المنادين بحرية الرأي وحقوق الإنسان وتحرير المعتقلين في سوريا وفي كل مكان في العالم".
في مقتطفات من سيرة حياته عاش أبو العلاء المعري فقيرا، متقشفا وزاهدا. حرّم على نفسه أكل اللحم، وإيذاء الحيوان وإيلامه. ولبس خشن الثياب، فلم يتزوج ولم ينجب، واعتزل الناس وانصرف إلى التفكير والتأمل في أحوال الدنيا والوجود. وعُرف بأنه قدري متشائم. ويُنسب إليه بيت من الشعر يذهب إلى أقاصي التشاؤم: "هذا ما جناه عليّ أبي/وما جنيتُ على أحد". وفي كتابه "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان" يذكر ابن خلكان (المتوفي بعد المعري بـ154 سنة) أن شاعر المعرة وفيلسوفها "أوصى بأن يُكتب على قبره هذا البيت عينه من شعره".
لكن أشهر قصائد أبي العلاء المعري، تلك التي تُدرّس في المناهج التعليمية والأقوى دلالة على مذهبه، ويقول مطلعها: "غير مُجدٍ في ملتي واعتقادي/ نوح باكٍ ولا ترنّم شادي". ثم نقرأ فيها أيضا:
"صاح (أيا صاحبي) هذه قبورنا تملأ الرحب/ فأين القبور من عهد عادِ؟
خفف الوطء ما أظن أديم/ الأرض إلا من هذه الأجساد
سِرْ إن استطعت في الهواء رويدا/ لا اختيالا على رفات العباد".
هل يفيد شيئا أن نذكر في هذا السياق أن المعري عاش في آخر أيام الدولة العباسية وتفككها إمارات ودويلات كثيرة، قبل فترة ليست طويلة من الشاعر الكبير أبي الطيب المتنبي (915- 965) الذي يخالفه الرؤية الشعرية ويتفق معه في بعض تفاصيلها؟ وعلى قدر ما كان المتنبي طامحا إلى القوة والملك، كان المعري زاهدا بهما ومعتزلا منزله في معرة النعمان. لكنه قبل ذلك كان أمضى سنة ونيف في بغداد عاصمة العالم آنذاك. ويقال إنه أمضى مدة قصيرة في اليمن. وها اليوم هذه البلدان - سوريا والعراق واليمن ومعهم لبنان - ديار اضطراب وهجرات.
كلنا يعرف أن رهين المحبسين كان كفيفا وأنه امتلك بصيرة مذهلة، ولم أجد ما يدعوني إلى ملء المحجرين وارتضيت العتمة تمثيلا، عسى العصافير تقف على عينيه – الفنان السوري عاصم الباشا
ناجون وتمثال
ولا تكتمل قصة تمثال أبي العلاء المقطوع الرأس في معرة النعمان، والمنصوب تمثال رأسه "لاجئا" على مدخل مدينة مونتروي الفرنسية، إلا برواية شيء عن منظمة "ناجون" السورية في فرنسا. وهي وجدت في قصة حياة المعري وقطع رأس تمثاله "ملجأ" وسبيلا للتذكير بالمأساة السورية في ديار الاغتراب أو اللجوء القسري. فصانع التمثال النحات عاصم الباشا ولد سنة 1948 في بيونس آيرس عاصمة الأرجنتين، لأب سوري مهاجر وأم أرجنتينية. ودرس هناك النحت. ثم أقام واستقر في غرناطة الإسبانية، وأصدر روايات ومجموعات قصصية منها "رسالة في الأسى"، "الشامي الأخير في غرناطة". وكان قد درس في موسكو وعاد إلى سوريا سنة 1977، فسبقته إليها تقارير أمنية. وعقابا له أُلحق مدرّسا للرسم في الحسكة السورية، بدل أن يكون أستاذا في كلية الفنون.
ولما قامت الثورة السورية على نظام بشار الأسد، اعتقل عاصم وأطلق سراحه، وقتل شقيقه نمير في المعتقلات الأسدية. وقد دوّن النحات يوميات اعتقاله في "يوم ونيف في يبرود" وفقدانه المئات من أعماله الفنية. وهكذا أجبر على اللجوء إلى إسبانيا، كسواه من الناجين ومن فكرة النجاة جاء تأسيس فارس الحلو لمنظمة "ناجون التي من نشطائها الممثل جلال الطويل والسينمائي أسامة محمد، والمغنية منى عمران، وسواهم كثر من الفنانين والكتّاب والمثقفين السوريين.
جمعت المنظمة تبرعات لإنجاز تمثال المعري وتجاوبت معها كثرة من الناجيات والناجين من المعتقلات السورية، ممن يتوقون لترك بصمة ثقافية سورية منيرة في أوروبا، من فنانين وكتاب وأكاديميين وإعلاميين وحقوقيين سوريين ومعهم فلسطينيون ولبنانيون فتبرعوا لصنع هذا النصب البرونزي الكبير (وزنه طن ونصف الطن، وارتفاعه 3 أمتار وربع المتر) لإمام العقل الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري. "ليكون أيقونة انتظار السوريين للعدالة والسلام والديموقراطيةفي بلدهم سوريا".
وفي العام 2018 عهدت "ناجون" إلى عاصم الباشا بنحت التمثال، فأنجزه في مطلع العام الحالي، ونقل من غرناطة إلى باريس. والمنظمة على صلات وعلاقات مع منظمات وهيئات حقوقية فرنسية، ولديها صفحة على فيسبوك تلاحق مجرمي النظام السوري وقتلته الذين هاجروا إلى بلدان أوروبية.
وبما أن بلدية مونتروي يسارية وديمقراطية الهوى تاريخيا، وفيها مقر نقابة كبريات النقابات العمالية تاريخيا في فرنسا، رحبت باستضافة تمثال المعري بالاتفاق مع منظمة "ناجون"، على ما قال مؤسس ومدير المنظمة فارس الحلو. وأنشدت منى عمران أبياتا من إحدى قصائد المعري في حفل إزاحة الستار عن تمثاله على مدخل المدينة.