القوة العسكرية ليست دائما قوة سياسية
في تلك الأثناء، كان العنف يتصاعد في العراق، وجاء الردّ العسكري الأميركي صاعقا وإن لم يكن فعالا في البداية. لم نفهم كيف كان العراقيون يخافون بعضهم بعضا ويخافون الأميركيين أيضا. ارتكب الأميركيون انتهاكات جسيمة، كما حدث في أبو غريب، وأسوأ من ذلك ما وقع في الحديثة عام 2005. اعتقلت قواتنا عشرات الآلاف من العراقيين، في كثير من الأحيان دون سبب، ووضعنا معظم المعتقلين في معسكر سجن يسمى بوكا. هكذا جمعنا المتطرفين ووضعناهم عن غير قصد في مكان واحد، حتى أصبح سجن بوكا "جامعة للجهاد"، تخرّج منها أبو بكر البغدادي وأبو محمد الجولاني (اللذان أسسّا في ما بعد "جبهة النصرة" في سوريا). في الوقت عينه كانت قوات الأمن العراقية التي كان الجيش الأميركي يبنيها، ترتكب بدورها انتهاكات أخرى فظيعة لحقوق الإنسان. في أواخر عام 2005 اكتشفنا سجن الجادرية الذي كان أسوأ بكثير من سجن أبو غريب، وأخذنا أدلة على تورط وزارة الداخلية وقدّمناها إلى رئيس الوزراء الجعفري الذي رفض معاقبة أي مسؤول. تذمر الأميركيون لكنهم استمروا في تقديم مليارات الدولارات إلى الجيش والشرطة العراقيين. في حلول عام 2011، كنا أنفقنا أكثر من 25 مليار دولار على إعادة بناء الأمن العراقي.
أراد الأميركيون أن يُظهروا للحكومة العراقية أننا ملتزمون النجاح في العراق. وعرف العراقيون كيف يستغلون هذا الالتزام الأميركي. عندما أمر الرئيس بوش بعد انتخابات ديسمبر/كانون الأول 2005 سفارتنا بإزاحة الجعفري من رئاسة الوزراء، قمت أنا والسفير زلماي خليل زاد بزيارته في وقت متأخر من إحدى الليالي في مارس/آذار 2006 لنقل الأخبار إليه. في نقاش مهذب وصعب استمر ثلاث ساعات مع العديد من أكواب الشاي الحلو، رفض الجعفري بعناد الاستقالة وتعهد بأنه سيفوز بتأييد غالبية أعضاء البرلمان الجديد ليظل رئيسا للوزراء. خرجنا من الاجتماع متعبين ومحبطين وعدنا إلى مكتب خليل زاد حيث خبط خليل زاد على مكتبه بغضب وسأل كيف يمكن للجعفري أن يرفض الطلب الأميركي، ونحن لدينا 150 ألف جندي في البلاد. قلت له الجواب البسيط: كان الجعفري يعلم أننا لن نسحب جنودنا ونعترف بالفشل.
لم يستطع خليل زاد أن يفرض رأيه، لكنه كان يستطيع المناورة. وشجع منافسي الجعفري الشيعة الطموحين على الترشح ضدّه لمنصب رئيس الوزراء. وأعدّ مكتبنا السياسي في سفارتنا قائمة بخمسة سياسيين شيعة اعتقد العديد من خبرائنا في السياسية العراقية أنهم يمكن أن يفوزوا بموافقة البرلمان. من بين الخمسة، كان خليل زاد يحب نوري المالكي أكثر من غيره. كان يعتقد أن المالكي سيكون مستقلاً عن إيران. وعقدنا العديد من الاجتماعات شربنا فيها المزيد من أكواب الشاي الحلو، وضغطنا بشدة لإقناع السياسيين العراقيين بدعم المالكي الذي أصبح رئيسا للوزراء في مايو/أيار 2006. وكان خليل زاد قد استغل الانقسامات داخل المعسكر الإسلامي الشيعي لإلحاق الهزيمة بالجعفري. لقد كان ذلك انتصاراً سياسياً على المدى القصير للأميركيين، لكن العراقيين دفعوا ثمناً باهظاً على المدى الطويل.
تمتع الأميركيون أيضا بنجاح أمني قصير المدى بدءا من عام 2008، لكن التأثير السياسي كان دائما محدودا. بدأ الجنرال بترايوس يدفع رواتب الشباب العرب السنّة لتجهيزهم لمحاربة "القاعدة" في أحيائهم بمساعدة الجنود الأميركيين. ساعد هذا البرنامج الذي أطلق عليه الأميركيون اسم "أبناء العراق"، في الحدّ من العنف في الأجزاء العربية السنية من العراق، إلى جانب استكمال الكثير من عمليات التطهير العرقي في أحياء بغداد. مع ذلك، كان للمالكي أجندته السياسية الخاصة، ورفض مع مستشاريه طلباتنا بالموافقة على دفع رواتب مقاتلي "أبناء العراق" وإعطائهم وظائف في القوات الأمنية التي كنا نمولها، واستمرّ الأميركيون في التوسّل. لم يكن رئيس الوزراء يثق في جهاز المخابرات العراقي الذي دعمته وكالة الاستخبارات المركزية وبدأ ببناء عملية استخباراتية موازية مع شيروان الوائلي. كنا أيضا نراقب ذلك ونتقدم بهدوء، لكننا لم نحاول منع المالكي من إحكام سيطرته على قوات الأمن العراقية. وعندما ألقت قوات العمليات الخاصة الأميركية القبض على بعض قادة "جيش المهدي" في ابريل/نيسان عام 2009، غضب رئيس الوزراء، لأن علاقاته بـ "الصدريين" كانت جيدة.
تأثير يتضاءل بسرعة
في حلول عام 2009، كان من الواضح أن الرئيس أوباما سيسحب القوات الأميركية من العراق ما لم يحصل على ضمانات الحصانة للجنود. كانت الحصانة مستحيلة سياسيا في بغداد، خاصة بعد المذبحة المروعة التي ارتكبها حراس شركة "بلاكووتر" في ميدان النصر عام 2007. ومع تناقص أعداد القوات الأميركية، اضطررنا لإغلاق مراكز الاعتقال والإفراج عن آلاف السجناء. أثار أحد السجناء، قيس الخزعلي، زعيم "عصائب أهل الحقّ"، قلقا خاصا لدينا، فقد قتلت الميليشيا الخاصة أميركيين وبريطانيين. رفضنا إطلاق سراحه بناء على طلب حكومة المالكي دون ضمانات بأن العراقيين سيبقونه رهن الاعتقال. لم يكن لدى المالكي مثل هذه النية، لأنه كان منهمكا في بناء قاعدته السياسية للانتخابات المقبلة. أدرك المالكي أنه يستطيع الانتظار ببساطة. وأخيرا، بعدما أيقنّا استحالة الحصول على تنازلات من المالكي، أطلق الأميركيون سراح الخزعلي في صفقة تبادل لقاء إطلاق رهينة بريطاني في يناير/كانون الثاني 2010. الخزعلي الآن أحد أكبر زعماء الميليشيات والقادة السياسيين الذين يضايقون الأميركيين في العراق.
كان آخر استعراض كبير للنفوذ الأميركي في العراق قبل انسحاب القوات هو دعم واشنطن المالكي لولاية أخرى بعد انتخابات مارس/آذار 2010. كانت نتيجة الانتخابات في الأساس متساوية بين المالكي وصديق الولايات المتحدة القديم أياد علاوي. كنا نعلم طائفية المالكي وفساده وترسيخ سلطته بما يخالف الدستور، مع ذلك، أرادت إدارة أوباما إنهاء المفاوضات حول مستقبل القوات الأميركية، وقررت أن المالكي، وليس علاوي، هو من لديه أفضل فرصة لتشكيل الحكومة والحصول على موافقة البرلمان بسرعة. حصل المالكي على دعم الصدريين أولاً. ثم ضغطت السفارة الأميركية على رئيس المنطقة الكردية المتشكك مسعود بارزاني لدعم المالكي الذي بدأت ولايته الجديدة في نوفمبر/تشرين الثاني 2010. لم يبدِ المالكي امتنانا للمساعدة الأميركية ولم يقدم أي تنازلات في شأن القوات الأميركية. قبل أوباما بسرور رفض المالكي، وغادر آخر الجنود الأميركيين العراق في ديسمبر/كانون الأول 2011. وتحول اهتمام واشنطن من العراق إلى الانفجارات في مصر وليبيا وسوريا.
بدأت الانفجارات في العراق أيضا. وردّاً على طائفية المالكي، بدأت مدن مثل الفلوجة والرمادي والحويجة احتجاجات ضده بعد أقل من عام على رحيل الجنود الأميركيين. وبدون أن يدروا، خلق الأميركيون مشكلة أخرى مع برنامج "أبناء العراق". كان الجيش الأميركي قد ميّز بين أبناء قبائل الأنبار من حيث إدخالهم في برنامجه للوظائف والمال، إذ حصلت بعض العشائر والقبائل على الوظائف ومساعدات إعادة الإعمار الأميركية بينما لم تحصل العشائر والقبائل الأخرى على أي شيء. استغل تنظيم "داعش" الاستياء من هذا التمييز الأميركي، ومن طائفية المالكي، للسيطرة على الفلوجة في يناير/كانون الثاني 2014. ثم استولى على الموصل بسهولة في يونيو/حزيران 2014، مستغلّا الفساد داخل قوات الأمن العراقية الذي رآه الأميركيون بأم أعينهم، واستنكفوا عن التصدّي له.
اقرأ أيضا: العراق...خريطة الميليشيات والانقسامات
مع اقتراب مقاتلي "داعش" من العاصمة العراقية في صيف 2014، أنتجت الورقة الأخيرة لإدارة أوباما نجاحا قصير المدى لكنها فشلت في ترك تأثير بعيد الأمد. فقد اشترط أوباما على بغداد إخراج المالكي من الحكم إن هي أرادت تدخل الولايات المتحدة العسكري ضدّ "داعش"، وسرعان ما أصبح حيدر العبادي رئيساً للوزراء في حالة من الطوارئ، وتعاون كلٌّ من القوات الجوية الأميركية ومقاتلي العمليات الخاصة بشكل غير مباشر مع الميليشيات التي تعمل بالوكالة عن إيران ضد العدو المشترك: "داعش". لكن النتيجة أن الأميركيين ورؤساء الوزراء العراقيين لا يستطيعون جميعا السيطرة على تلك الميليشيات الموالية لإيران. في تلك الأثناء، كان أصدقاء أميركا في أربيل، مثلهم مثل أياد علاوي، قد تعلّموا أنهم لا يستطيعون الاعتماد على الصداقة الأميركية، حيث كانت واشنطن قد نددت بالاستفتاء حول استقلال الإقليم الكردي، ولم توقف سيطرة الجيش العراقي على كركوك واسترجاعه من أيدي البيشمركة. اتضحت نقاط ضعف أربيل الاقتصادية وأصبح الاستفتاء كارثة للمنطقة الكردية التي تعد أكثر أجزاء العراق ودّا تجاه الأميركيين.