في عام 1938، وقعت حادثة غريبة، حين استدعى ملك مصر فاروق الأول، وكان وقتذاك في الثامنة عشرة، الضابط المسؤول عن المتحف العسكري المصري، محمد نجيب، لعرض أرقى عتاد عسكري في مصر. ظهر محمد نجيب البالغ من العمر 38 عاما في زيه العسكري الكامل، في حين كان فاروق الشاب يرتدي سروالا قصيرا وينتعل صندالا. طلب الملك من الضابط نجيب أن يحضر له أقدم بندقية موجودة في مصر، ليضمّها إلى مجموعة أسلحته الخاصة. لم يدرك الملك فاروق أن هذا الضابط سيقود ذات يوم الثورة التي ستطيحه وتُسقط العرش المصري بعد أربعة عشر عاما من ذلك التاريخ، أي في 23 يوليو/تموز 1952.
وضع الملك فاروق مجموعة من الشروط قبل تخليه عن التاج في ذلك اليوم المصيري في التاريخ المصري. كان أول تلك الشروط أن يُكتب خطاب تنازله عن العرش على قرطاسية تحمل طابعا رسميا. إذ أراد الملك فاروق التأكد من أنّ استقالته تليق بملك وتكون مختلفة عن استقالة صديقه الرئيس السوري شكري القوتلي الذي أُجبر على كتابة استقالته على قصاصة صغيرة من الورق عام 1949. وتمثّل طلبه الثاني في أن يُطلق حرس الشرف 21 طلقة مدفع تحية له على أبواب القصر الملكي في سماء القاهرة. واشترط ثالثا أن ترافقه مدمرات مصرية إلى المياه الإقليمية. وكان شرطه الرابع والأخير مرافقة قائد الضباط الأحرار محمد نجيب له على متن السفينة الملكية، "المحروسة"، قبل إبحارها إلى نابولي. قَبِل نجيب تلك الشروط جميعا (باستثناء الشرط القاضي بمرافقة السفن للملك في البحر)، ووقّع الملك فاروق خطاب تنازله عن العرش. ويبدو أنه كان متوتّرا، إذ وقّع الوثيقة بالخطأ مرّتين: مرّة في أسفل الصفحة والثانية في أعلاها.
صعد اللواء نجيب إلى السفينة "المحروسة" وحيّا الملك السابق. كانا كلاهما يرتديان الزي العسكري هذه المرة، وكان فاروق يرتدي زي أميرال البحرية. يستذكر نجيب في مذكراته اللقاء الدراماتيكي قائلا: "مرت فترة سكون. سكون ثقيل كأنه جبل. فمن الصعب إنسانيا أن تودّع ملكا كان يملك كل شيء، ويحكم كل شيء قبل أيام قليلة، وكان من الممكن أن يعتقلني، أو يقتلني. ومرّ الصمت الذي كان يسيطر علينا ويحكمنا ويربك أنفاسنا، ويجعل الكلمات عاجزة عن الحركة على شفاهنا. لاحظ فاروق أنّ جمال سالم يحمل عصاه وهو يقف أمامه، فتوقف عن الحديث وأشار إليه قائلا: "ارم عصاك". وحاول جمال سالم أن يعترض لكني منعته من ذلك. وعاد فاروق للحديث معي وقال: "إنّ مهمتك صعبة جداً، فليس من السهل حكم مصر".
كأس السم
كان التحذير من صعوبة حكم مصر آخر الكلمات التي قالها الملك فاروق قبل أن يغادر في صيف عام 1952. وثبتت صحة نبوءته حيث أنّ أربعة من خلفائه الستة سيعانون مصيرا بائسا ونهايات مروّعة، شبيهة بمصيره ونهايته. كان أحد الأربعة محمد نجيب نفسه، الذي أُطاحه جمال عبد الناصر، صديقه ومحطّ ثقته، بعد عامين فقط من توليه السلطة، ووضعه قيد الإقامة الجبرية لمدة سبعة عشر عاما. وقُتِل أنور السادات رئيس مصر الثالث في 6 أكتوبر/تشرين الاول 1981 بينما أطاحت ثورة يناير/كانون الثاني خلفه حسني مبارك ووُضِع في السجن في فبراير/شباط 2011. وانتظر خليفته محمد مرسي في عام 2013 المصير نفسه.
لاقى الملكُ فاروق حتفه عن عمر ناهز 45 عاما، حيث سقط مغشيا عليه في مطعم فرنسي في روما في 18 مارس/آذار1965، إثر تناوله وجبة سخية من المحار ولحم الضأن. وعلى الرغم من أنه تنازل رسميا لابنه الرضيع أحمد فؤاد، إلّا أن أي ملك آخر لم يتولّ حكم مصر من بعده.
وارث العرش (1920-1936)
وُلد فاروق الأول في قصر عابدين في القسم الشرقي من وسط القاهرة في 11 فبراير/شباط 1920. وكان عيد ميلاده بمثابة احتفال وطني في مصر، ومن المفارقات أنّ المصريين سيحتفلون بذلك التاريخ بعد سنوات عديدة لمناسبة استقالة حسني مبارك في التاريخ نفسه (11 فبراير/شباط) من عام 2011. وكان الملك العاشر من سلالة محمد علي التي حكمت مصر منذ أوائل القرن التاسع عشر. كان نجل الملك فؤاد الأول وحفيد الخديوي إسماعيل الذي كان حاكما يرنو إلى المستقبل، وعقلا عظيما معترفا به، على أنه يكمن خلف النهضة الثقافية التي شهدتها مصر في القرن التاسع عشر. واسماعيل هو الرجل الذي فتح قناة السويس، الأمر الذي أدّى إلى إغراق مصر في الكثير من الديون وفي نهاية المطاف أطاحه المصريون ونُفي – كما حصل للملك فاروق تماما.
ترعرع الملك فاروق تحت ظل تأثير عظيم من أسلافه، وكان والده صارما جدا في تربيته، حيث استقدم معلمين من أوروبا وإسطنبول لتعليمه الرياضيات والجغرافيا وتاريخ العالم. وحُرم فاروق من التمتع بـ"الامتيازات" الممنوحة للأطفال الصغار المصريين؛ فهو لم يذهب إلى المدرسة، ولم يكن لديه أصدقاء، ونادرا ما كان يُسمح له بالتفاعل مع أي شخص بخلاف مجموعة كبيرة من المربيات، ورجال الحاشية، وخدم القصر. ولم يزر أهرامات الجيزة العظيمة إلا بعدما أصبح ملكا في عام 1936.
مع ذلك، نشأ فاروق في منزلٍ تسوده حالةٌ من الاضطراب. وكان الحبّ معدوما تماما في العلاقة التي كانت تربط بين والدته الملكة نازلي ووالده الملك. كانت نازلي الزوجة الثانية لفؤاد بعد زواج فاشل ربطه بالأميرة شيفاكيار، التي أنجبت له ابنة لكنها لم تنجب وارثا ذكرا. ثم تزوّج نازلي، وهي سليلة أسرة أريستوقراطية عثمانية كانت تتحدث الفرنسية بطلاقة، وكانت مصقولةً أكثر من زوجها من الناحية الثقافية والاجتماعية. وكانت أيضا تصغره بعشرين عاما. أنجبت نازلي له أخيرا وارث العرش بعد سبعة عشر عاما من الزواج، لكنها، كما يقال، لم تذرف دمعة واحدة عندما توفي الملك فؤاد عام 1936.
أُرسل فاروق لتلقي دراسته في الأكاديمية العسكرية الملكية في وولويتش، حيث أقام في منزل صغير في ريف مقاطعة "سوري" البريطانية. وبدلا من أن يحضر فصوله الدراسية، كان يمضي سنواته في لندن في التسوّق، وقيادة السيارات السريعة، ومعاشرة النساء. وعندما وافت الملك جورج الخامس المنية في 20 يناير/كانون ثاني 1936، حضر فاروق جنازته التي جرت في قصر وستمنستر. وبعد ثلاثة أشهر من ذلك التاريخ، توفي ملك مصر في 28 أبريل/نيسان 1936. وأٌعلن فاروق تلقائيا ملكا في السادسة عشرة من عمره، لكن تتويجه لم يتمّ رسميا حتى بلغ سن الرشد في يوليو/حزيران 1937.
ووفقا لما يقوله وليام ستاديم في كتابه المعنون "مفرط الثراء: حياة الملك فاروق المترفة وموته المأسوي" الذي صدر عام 2009، فإنّ فاروق ورث من والده ثروة قدرها 100 مليون دولار أميركي، يُضاف إليها 30 ألف هكتار من المزارع في وادي النيل، كما ورث خمسة قصورٍ، و20 سيارة ويختين. ويصفه ستاديم في كتابه بالقول: "لم يبدأ أي فرعون، ولا حاكم مملوكي، ولا خديوي، عهدا بهذه النية الحسنة محط التساؤل والحماسة التي بدأ الملك فاروق بهما عهده، ولكن في الوقت نفسه، لم يتصف أيّ منهم بعدم استعداده للحكم كما كان يتصف به فاروق، الذي كان طفلا يبلغ من العمر ستة عشر عاما محجوبا بالكامل عن الواقع ويتمتع بقسط قليل من التعليم تقريبا، وكان يُتوقع منه أن يملأ الفراغ الذي خلفته وفاة والده الماكر والذي كان يتمتع بحنكة سياسية في لعبة شدّ الحبل بين القوى القومية والإمبريالية والدستورية والملكية".
خاطب الملك فاروق الأمة في بثٍّ إذاعي مباشر، واستحوذ على عقول المصريين وقلوبهم على حدّ سواء. فلم يسبق لأي ملك آخر أن تحدث مباشرةً إلى الشعب، وبالتأكيد لم يسبق لأحد قبله أن خاطب الشعب من خلال الراديو وبلغة عربية فصحى. واتّسم صوته بالعمق والدفء بخلاف والده الذي نادرا ما خاطب الشعب المصري، وذلك بسبب افتقاره إلى مهارات الخطابة وبسبب أنه كان يتحدث لغةً عربيةً بالغة السوء.
منذ اليوم الأول له في الحكم، تميّز عهد الملك الشاب بثلاثة تحديات رئيسة استمرّت في ملازمة حكمه حتى انسدال الستارة على ذلك الحكم ألا وهي: البريطانيون، وحزب الوفد، ووالدته الملكة نازلي.
التحدي الأول: السفير البريطاني مايلز لامبسون
عيّنت بريطانيا مايلز لامبسون سفيرا لها في مصر عام 1934. كان السفير يشعر بالكره تجاه فاروق وكان فاروق يبادله الشعور نفسه. وكان يحاول السيطرة على تصرفات الملك الشاب بأن يقدّم إليه نصائح استعمارية وتوصيات أبوية كان يجدها الملك فاروق في كثير من الأحيان فظّة ومتعالية. وعلى الرغم من اتهام الضباط الأحرار لفاروق لاحقا بتأييده بريطانيا، إلا أنّ حقيقة الأمر هي أنه لم يكن محبّا لإنكلترا ولثقافتها على الاطلاق. بل كان، في حقيقة الأمر، يكره البريطانيين، ويخصّ منهم مايلز لامبسون بكراهية أعلى.
وكان أنطونيو بولو هو الشخص الذي يثير حفيظة لامبسون ويجد نفسه في منافسة مباشرة معه. كان أنطونيو بولو كهربائيا تحوّل إلى مدرّسٍ لفاروق، ثمّ غدا مستشاره الخاص والشخص الذي يمحنه ثقته. ورافق الملك منذ نعومة أظفاره وكان الملك يصغي إليه على الدوام، وكان بولو يقول له باستمرار إنه يجب عليه التخلص من مايلز لامبسون إن هو أراد أن يحكم على نحو يليق به.
كان الديبلوماسي البريطاني يشعر بالرعب خاصة مما كان يصفه غالبا بتوسّع النفوذ الإيطالي في مصر، ولا سيما بعد احتلال بينيتو موسوليني ليبيا المجاورة وبعد التوسّع الإيطالي في إثيوبيا. وقّعت بريطانيا العظمى ومصر في أغسطس/آب 1936 معاهدة تمنح البريطانيين الحق في تسليح الجيش المصري وتدريبه، والدفاع عن مصر في أوقات الحرب بعد أشهر فقط من حكم فاروق. وكان على القوات البريطانية بموجب المعاهدة الانسحاب رسميا من البلد الذي احتلته منذ عام 1882، ولكن سُمح لها بالاحتفاظ بـ 10 آلاف جندي لحماية شحن البضائع في قناة السويس. كانت الحرب العالمية الثانية قاب قوسين أو أدنى، وكانت بريطانيا العظمى بحاجة ماسة إلى الاستعداد لمواجهة مقبلة مع الفاشية والنازية.
التحدّي الثاني: حزب الوفد
أسّس القيادي المصري سعد زغلول، المعروف باسم "أبي الأمة المصرية" حزب الوفد الذي ارتبط اسمه بثورة 1919 الشعبية الهائلة ضدّ البريطانيين. ومنذ وفاة زغلول في عام 1927، انتقلت قيادة حزب الوفد إلى مصطفى النحاس باشا رئيس أكبر كتلة في البرلمان، وجرى تعيينه رئيسا للوزراء في مايو/أيار 1936. ووجد الوفد أرضا مشتركة مع البريطانيين على الرغم من كونه تاريخيا حزبا قوميا بامتياز، فكلاهما كان يخشى الإيطاليين ولم يكونا يكنّان للملك فاروق الكثير من الودّ.
كان النحّاس باشا يصف فاروق عادة بأنه يفتقر إلى الحسّ بالمسؤولية وبأنه غير جدير بحكم مصر. وكان على خلاف شديد ودائم مع القصر الملكي طوال الفترة التي أمضاها كرئيس للوزراء، وكان يحاول تجاوز سلطة الملك، في وقت كان يقول فيه إنّ السلطة ينبغي أن تكون في يد البرلمان.
وشرع فاروق من جهته في دق إسفين داخل حزب الوفد، وأخذ يحرك طرفا من الحزب (برئاسة علي ماهر باشا)، مقابل الطرف الذي يرأسه النحّاس باشا ومكرم عبيد باشا. حتى أنه تواصل مع جماعة الإخوان المسلمين، على الرغم من عدم وجود أي قاسم مشترك يجمعهما، واعترف بالجماعة على أنها ثالث أقوى لاعب في السياسة المصرية بعد حزب الوفد والقصر الملكي. وكان فاروق يتودّد إلى قادة الجماعة ويحاول الظهور بمظهر المسلم التقي، ولم يفوّت فرصةً لحضور صلاة الجمعة مع الجماهير أو التبرع بسخاء للجمعيات الخيرية الإسلامية. وعلى الرغم من أسلوب حياته الباذخ والسمعة التي انتشرت عنه على أنه يلاحق النساء، إلا أنّ تصرفاته تلك عزّزت مكانته في أوساط المجتمع المحافظ ولاقت رواجا كبيرا لدى الجمهور المصري.
كما تواصل مع المصريين العاديين بزواجه من صافيناز ذو الفقار، وهي ابنة قاضٍ مصري عصامي. وقرّر فاروق أن يطلق عليها اسم فريدة، بعدما نصحه عراف هندي بتسمية عائلته بأسرها بأسماء تبدأ بالحرف الأول من اسمه، زاعما أنّ هذا سيجلب لهم الحظ السعيد (وفي نهاية المطاف سمّى جميع أبنائه على نحوٍ مماثل: فوزية، فادية، فريال، وأحمد فؤاد).
شعر الملك فاروق بثقة كافية مكّنته من إقالة النحّاس باشا عام 1937 بعد خطب ودّ عامة الناس، وحصوله على دعم جماعة الإخوان المسلمين وحصوله على دعم شريحة كبيرة من الشعب المصري. واستبدل الملك فاروق النحّاس بمحمد محمود باشا الذي لم تكن تربطه علاقة جيدة مع السفير البريطاني، مثله في ذلك مثل الملك فاروق.