مضت عشرون عاما على تغيير نظام الحكم في العراق، وعايشتُ تلك السنوات وفق منظور الباحث المختص بالعلوم السياسية، والمواطن الشاهد على التحول السياسي وصراعاته. وصفتُه قبل عامين في مقال بأنه تحول من "جمهورية الخوف إلى جمهورية الفوضى". واليوم أستذكره بعنوان أكثر قسوة عندما أصفه بـ"جمهورية اللادولة".
من يقرأ تجارب البلدان التي شهدت تغيراً سياسياً من الديكتاتورية إلى تبني النظام الديموقراطي، لا يجد العراق شاذاً عن تلك التجارب. لكن ربما يكون الاختلاف على مستوى تراكمات الفوضى والخراب التي أنتجها تغيير نظام الحكم، والتي تنحرف يوماً بعد آخر عن المحطات التي تراكم بناء دولة ديموقراطية، هي دولة المؤسسات، وتؤسس لعلاقة جديدة بين المواطن والدولة. فقد باتت الديموقراطية تختزل بالانتخابات، والقطيعة بين المجتمع والدولة تتزايد، وبات الفاعلون في النظام السياسي أكثر احترافية في تأسيس منظومة حكم اللصوصية السياسية بدلاً من أن يكتسبوا احترافية سياسية تؤهلهم لقيادة الدولة. والحال هذه، باتت قوى اللادولة هي التي تحكمنا!
في مقدمة كتابه "جمهورية الخوف"، يقول كنعان مكيّة: "إنَّ الخوف، لم يكن أمراً ثانوياً أو عَرَضياً، مثلما في أغلب الدول "العادية"، بل أصبح الخوف جزءاً تكوينياً من مكونات الأمّة العراقية". وبسبب ممارسات العنف من القتل والتهجير "كان يغرس في كلّ من الضحية والجلّاد القيم ذاتها التي يعيش ويحكم من خلالها. فعلى مدار ربع قرن من الزمان، جرت عمليات إرساء الحكم على مبادئ من عدم الثقة، والشك، والتآمرية، والخيانة التي لم تترك بدورها أحداً إلا أصابته بعدواها".
لذلك، مرَّ العراق بكل الأعراض المرضية الناجمة عن تغير الأنظمة الشمولية، من حرب أهلية، ومواجهة جماعات متمرّدة ورافضة التغيّر السياسي، وبروز زعماء و"أثرياء حروب"، وظهور مافيات. لكنْ أن تؤسس الفوضى لأعراف وممارسات سياسية، فهذه هي الكارثة الحقيقة التي حلَّت بالبلاد والعباد! إذ على الرغم من إجراء انتخابات كلّ أربع سنوات، فإن هذه الانتخابات لا تفضي إلى تأليف حكومة إلا بعد توافق زعماء الطوائف السياسية. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ لا تتم الموافقة على الحكومة إلا بحضورٍ وتدخلٍ خارجيين!
انتقلت عدوى "جمهورية الخوف" إلى "جمهورية الفوضى". وبدلاً من أن تكون الحكومة وكيلةً عن الدولة، أصبحت وكيلة الأوليغارشيات السياسية التي تبتلع الدولة ومؤسساتها. لذلك تكون مهمة الحكومة الرئيسة إدارة الريع الاقتصادي للدولة لصالح الأحزاب والطبقة السياسية. أما ما يتبقّى من هذا الريع فيتمّ توزيعه رواتبَ لموظفي القطاع الحكومي، التي بات توفيرها يعتبر منجزاً يستوجب الثناء والامتنان من المواطنين.
ويبدو أن الأزمة السياسية في العراق ليست وليدة لحظة تغيير النظام السياسي في 2003، وإنما هي أزمة بنيوية في نمط الحكم وتفاعلاته السياسية، كما يشخص ذلك توبي دوج في كتابه "اختراع العراق"، إذ يرى "أن السياسات العراقية من خلق الدولة في أعقاب الحرب العالمية الأولى حتى إزاحة صدام حسين، قد هيمنت عليها أربع مشكلات بنيوية. هي: أولاً، نشر مستويات مفرطة من العنف المنظم من الدولة للسيطرة على المجتمع وتشكيله. ثانياً، استخدام موارد الدولة لشراء ولاء قطاعات من المجتمع. ثالثاً، استخدام دَخل النفط من الدولة لزيادة استقلالها عن المجتمع؛ وأخيراً، قيام الدولة بمفاقمة وإعادة خلق الانقسامات الفئوية والعرقية كاستراتيجيا للحكم".
في كتابه هذا، تنبأ دوج قبل عشرين عاماً بأن العراق سيكون، في المدى المتوسط، عرضة لعدم الاستقرار، ولن تخف فيه إلا درجة القسوة والفعالية التي يبديها الحكام الجدد في بغداد. وسوف تستوطن النخب الحاكمة كل جوانب الاقتصاد وسيكون الفساد المصدر الرئيس لطول عمر النظام السياسي.