تتحدر الجائزة الأدبية من سوابق نبيلة بهدف منح العمل الأدبي مزيدا من الاهتمام، لكنّ انتشارها في الفترة الأخيرة أخذ يؤثر على خيال المؤلف، بل وحتى على خيال القارئ، بعدما أصبح هناك أكثر من 1200 جائزة سنوية في العالم كله. غيرت الجوائز الأدبية تربة النص، ولغة المناظر الطبيعية، والسرد الجيولوجي الثقافي، وأخذت سطور الأدب تتآكل بدرجات جيدة أمام المهيمنين على جغرافيا التوزيع ونقاط البيع، ومناخ القوائم الأكثر مبيعا، وأسلوب الناشرين في التعاطي مع الرواية الجديدة. فهل نستطيع القول إن الجوائز الأدبية "فيروس" يفسد التكوين الأخلاقي للمجال الأدبي دون قصد؟ ونتساءل، هل الروايات أصبحت فرصة للنميمة بين أدعياء الثقافة؟ أم أن صناعة الجوائز نمو بطيء لاستثمار الكِتاب بعائدات وقُراء وفق معايير خاصة؟ أم أن الجوائز مؤسسات تريد اعتراف الجمهور بها من خلال المؤلفين؟
لم يتدخل النقد بعد في مستوى بعض الجوائز، أو للتحذير من أخطار بعضها ومن أغراضها، بل لم يتدخل حتى في بعض الآداب التي باتت معدلة وراثيا، بجانب ظهور ثقافة أحادية للروايات، إلى التأهيل المفرط لكتب ساذجة، وتحويل المؤلف إلى علامة تجارية
أمام كل هذه الجوائز (الأدبية تحديدا)، وكل التساؤلات، نجد أن النقد في العالم كلّه لم يتدخل بعد في مستوى بعضها، أو للتحذير من أخطار بعضها ومن أغراضها، بل لم يتدخل حتى في بعض الآداب التي باتت معدلة وراثيا، بجانب ظهور ثقافة أحادية للروايات، إلى التأهيل المفرط لكتب ساذجة، وتحويل المؤلف إلى علامة تجارية، وقص جذور أدبية أصلية من طريق التشكيك المفتعل بعمله من خلال التركيبات المشبوهة أو التشويش العاطفي، ورجم الراوي في جلسات الكُتّاب المنحازين... فهل بات النقد عاجزا أمام كثرة الجوائز المنتشرة لتوصيفها؟
حرصا على الصدقية، نتساءل: أين الدراسات حول موضوع الجوائز؟ سواء في اللغة العربية وحتى في اللغات الأخرى، إذ لا نجد سوى مقالات لا تتجاوز النبرة الوصفية، وهي أشبه بنميمة أو شكوى متعالية أو متحيزة، وهذا ما يحدث حتى في الأوساط الأكاديمية، على الرغم من أن الأدب يقوم على الثالوث المعروف: مؤلف، نص، قارئ، وغالبا ما تتداخل الذائقة الأدبية بقوة أيضا في اختيارات لجان الجوائز، والذوق أيضا يحتاج إلى دراسة، بما في ذلك الإلمام بمادة علم النفس للمشاركة في النقد، كي يمضيا معا بعمق للإضاءة على الجوانب الخفية في النصوص.
اقرأ أيضا: لهذه الأسباب ابن عربي هو الفيلسوف العربي الأعظم
عودة إلى الأدب، نتوجه إلى المتحدثين عن الأدب في الأنشطة الإعلامية: ألا يقبلون عليه بشكل متباهٍ، وكأن آراءهم فوق الروح الإنسانية الأبدية والدائمة؛ آراء نابعة من مواقف أيديولوجية، ومن نظريات خفية، تجعل الأدب دعاية اقتصادية ترويجية، والجوائز مفتاحا لهذه الفرضيات؟
ولأن الحياة تختبر قدراتنا وإمكاناتنا ومواهبنا، فجمال الجوائز أنها تمنح قراء وتقديرا لموهبة الكاتب وإمكاناته وقدراته. بالتالي، تعدّ الجائزة اليوم بالنسبة إلى كثيرين أعلى درجات الشرف والتقدير التي يطمح إليها مؤلف أدبي أو خبير اقتصادي أو أي عالم، فمن يستطيع أن يرفضها؟ وإن وقع الرفض فذلك من النادر جدا، كما حصل مع جائزة نوبل الأشهر، التي أسسها العالم ألفرد نوبل تكفيرا عن ذنبه بعد اختراعه الديناميت، بهدف تغيير حياة البشر إلى الأفضل، فكان الرافض لها الفرنسي جان بول سارتر، ليس لأمر في الجائزة بقدر ما هو موقف. فهو الممثل الرئيسي لفكرة الوجودية، من خلال كتابه "الوجود والعدم" الذي كشف فيه نظريا عن أطروحاته حول الوجودية بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا، فمنحته مؤسسة نوبل الجائزة، إلا أن سارتر مؤسس أيضا لفكرة الحرية، فرفض ولم يقبل أن يكون في جوف جائزة بمؤسستها المؤطرة.
يكاد يكون من الشائع أن بعض المؤلفين باتوا شبه متوقفين عن الكتابة بعد نيل جائزة، وبعضهم فقد الشغف في الابداع، أو صار أقل ابداعا وجودة في عمله، مقارنة بأعماله السابقة، فقلة من المبدعين يجتازون هذه المحنة
في تاريخ الجوائز القصير، يكاد يكون من الشائع أن بعض المؤلفين باتوا شبه متوقفين عن الكتابة بعد نيلها، وبعضهم فقد الشغف في الابداع، أو صار أقل ابداعا وجودة في عمله مقارنةً بأعماله السابقة، فقلة من المبدعين يجتازون هذه المحنة كما حصل مع أورهان باموق الروائي التركي الذي أدهش قراءه والعالم بإبداعاته بعد نوبل. فهل الجائزة سقف يحتاج نَفَسا جديدا للصعود أعلاه؟
اقرأ أيضا: ميسرة صلاح الدين: جمهور القراء لديه شغف بالجديد
أخيرا، ثمة مواقف حكومية من الجوائز، كما فعل هتلر يوما حين أصدر مرسوما عام 1937 يمنع على أي مواطن ألماني الحصول على جائزة نوبل، كما منع الكيميائيين والباحثين الفائزين من أخذها.
تبقى الجوائز مسألة سجالية بين أخذ وردّ، ورفض وقبول. لكنّ الأدب يعشق الحرية ويعشق الدخول في عوالم لم تُكتشف، الأدب يرسم اللغة ويقوي الفكر، الأدب أجنحة ترفرف في كل مكان وزمان، بجائزة ومن غير جائزة. فالجائزة لا يمكن أن تصنع مكانة اعتبارية تليق بأدب الكاتب قبل شخصه.