جسر تواصل
اختار الكتّاب المهاجرون استخدام اللغة الإيطالية للتعبير عن أنفسهم، وبالتالي تحويلها إلى جسر تواصل بينهم وبين المجتمع المضيف. لذلك، ترتبط الكتابة بالحاجة إلى التواصل، بالإضافة إلى كونها نتيجة لحاجة داخلية. وهي تأخذ في الاعتبار أيضا حالات الطوارئ الخارجية، مثل العيش في بلد آخر. بينما، على سبيل المثل، في بريطانيا العظمى وفرنسا، نشأت حركات أدبية حقيقية مثل "بريطانيا السوداء Black Britain" و"أدب البوير Littérature Beur"، مع ذلك، تمثّل إيطاليا حالة خاصة في البانوراما الأوروبية. لقد تطور إنتاج أدب المهاجرين في أقل من عشرين عاما ويمكن التمييز بين ثلاث مراحل، من خلال مسار النمو الذي ينتقل من السيرة الذاتية، بوساطة المؤلفين المشاركين الآخرين، إلى اكتساب اللغة الخاصة للكتّاب، حتى من قبل كتّاب الجيل الثاني.
تشهد موضوعات المرحلة الأولى على التجربة الدرامية للمهاجرين، وصعوبات الاندماج في المجتمع الإيطالي، والحاجة الماسّة للتعبير عن وجودهم وتأكيد تقاليدهم وثقافتهم، واعتبارهم كائنات مفكّرة وليسوا مجرد عمالة، أو مواطنين من الدرجة الثانية. نتج من هذا الموقف أدب مزدوج، ليس فقط لأنه مكتوب بالتعاون مع مؤلفين مشاركين، بل أيضا لأنه يعيش حالة توازن بين الرفض والقبول، بين ثقافة الانتماء وثقافة المجتمع المضيف. فنجد أن الرغبة في الاندماج، موضوع موجود دائما في قصص الهجرة، حيث يظهر في المرحلة الأولى بوصفه حبّا غير مشروط تقريبا للأرض المضيفة، ثم يتغير الوضع بعد تجاوز الصدمة الأولى والتعرض لأول حوادث الرفض والتمييز العنصري من جانب المواطنين المحليين.
من وجهة نظر لغوية، يمكن القول إن هؤلاء الكتاب الأوائل تبنّوا اللغة الإيطالية، من خلال أشكال التأليف المشترك، وهو أمر مثير للاهتمام لأنه يؤكد بشكل أكبر الشعور بالازدواجية، والعيش في بيئة لا ينتمون إليها، وفقدان الهوية الأصلية من دون الحصول على هوية جديدة. إنه أدب عابر، مثلما سمّاه بعض النقاد، لكنها الخطوة الأولى المهمة التي بدأ من خلالها المهاجرون يكونون حاملين موارد إبداعية.
إعادة ترتيب
لكن ماذا يعني أن تكون كاتبا مهاجرا؟ تحاول الكاتبة البرازيلية المولد كريستيانا دي كالداس بريتو تحديد ما يدفع كاتبا مهاجرا إلى الكتابة، قائلة: "الكتابة لدى المهاجر تعني إعادة ترتيب حياة كان يجب أن تتدفق بين الجدران الداخلية للوطن والتي، بدلا من ذلك، عانت من مصيرها المتأرجح، وبالتالي انتقلت إلى مكان آخر. يبدأ أدب الهجرة هنا في الرواية المكتوبة عن التجارب والعواطف الموجودة في فعل الهجرة والاستقرار في بلد مختلف. يعني منح مغزى للمغادرة وفهم الوصول". مع ذلك، ترى بريتو أن "الخطر على الكتّاب المهاجرين هو أن يظلوا مقيدين بموضوع الهجرة، المرتبط بالفولكلوري أو الغريب إلى الأبد". هذا الخطر قد يحدث أيضا في الاتجاه المعاكس، أي عندما تواصل وسائل الإعلام استخدام هذه التسمية لتعريف هؤلاء الكتّاب، ومزاوجة إنتاجهم بهذا المسمى. كتبت إيجابا شيخو عن هذا الموضوع، قائلة: "ما يجعلني ورفاقي القلائل (قليلون لبعض الوقت) مختلفين جدّا عن كتّاب الجيل الأول. بادئ ذي بدء، الولادة. غالبا ما ولد كتّاب الجيل الثاني هنا في "إلبيل بايزِهْ" (البلد الجميل، أي إيطاليا)، أو إذا لم يولدوا، فقد وصلوا إلى هنا مع ذويهم في سن صغيرة جدّا (قلة من السبعينات والثمانينات كانت نتيجة للزيجات المختلطة). نحن أبناء ذلك الجيل من المهاجرين الذين وصلوا إلى إيطاليا في السبعينات والثمانينات. التحقنا بالمدارس الإيطالية، وأصبحت لدينا خلفية ثقافية إيطالية، عشنا جزءا من حياتنا في موطن إيطالي (أقول جزءا منه لأن المنزل بالنسبة إلى كاتب من الجيل الثاني ليس موطنا إيطاليّا أو أنه كذلك جزئي فقط). لذلك نحن إيطاليون من "خلال" و"عبر".
بلاغة الصمت
بينما يقدم الكاتب الجزائري الطاهر العمري تعريفا لافتا بهذا الصدد: "لديَّ انطباع راسخ بأن الأدبيات المتعلقة بالهجرة في إيطاليا أو الكتّاب المهاجرين، مثلما يُطلق عليهم منذ بعض الوقت، لا تتحدث إلا عن الصمت البليغ للمهاجر، سواء أكان كاتبا أم لا. في هذا الصمت ثمة جاذبية، بلا تفاخر، سحرٌ أخّاذ، وطريقة سرّية للحديث عن أمور الحياة والحب، والغربة، والأمومة، والطفولة. عن الموت، عن الصعوبة والفرح، وفوق كل شيء قدرته على استخدام الكلمات - الإيطالية - للتعبير عن كل هذا بنوع من السلاسة التي تجعلنا نُفاجأ بحبّ كل شيء، ونغفر كل شيء عندما نجد أنفسنا نعيش في مواقف طارئة، غير ثابتة، متوازنة، تارة على قدم واحدة، وأبدا على كلتيهما، في حالة إرجاء أو تَدَلٍّ دائم. صمت خالٍ من الجدال، الذي لا يدّعي أبدا أن الصراع غاية في حد ذاته، معبرا عنه بطريقة شخصية تماما، بلغة غالبا ما تهمس، ولا تصرخ أبدا. الروح البشرية هي البطل المطلق، التي تسجل الصدمات التي يتعرض لها الفرد، ومن خلال الروح البشرية يتم أحيانا تحليل النكسات، وليس إمكانات المهاجرين، هؤلاء الذين غالبا ما يُترَكون لمصيرهم".
ثمة نقطة أخرى يتعين التوقف عندها، وهي أن الشخصيات لدى الكتّاب المهاجرين لا تزال تتلمس موضعا مخفيّا، كأنها تخشى الدخول في مجابهات يمكن أن تضع حتى لون جلدها للمساءلة، أو وجودها في حدّ ذاته. فهي كالأحلام التي تسكن الحكايات، تعذّب الرواة في تعقّبها، وتأبى أن تظهر بكامل ثوبها للقارئ. ومهما يكن الأمر، حتى عندما يتماهى الكاتب مع شخصياته في السرديات الذاتية، فهو لا يكتفي بذاته، لأن ما يقوله ويعبّر عنه هو تعبير داخلي مفتوح دائما للحوار، أي مواجهة مع التجربة الإنسانية بأشكالها كافة، والبحث المستمر عن الحقيقة، بعيدا من "قصور الذاكرة الشاسعة"، مستهدفا الحاضر المتغيّر باستمرار، من دون أن يقطع صلته بالماضي أو يقيم روابط متينة مع المستقبل عبر الكلمة بالضبط.