رحلة تلفزيونية إلى المحكمة

رحلة تلفزيونية إلى المحكمة

شاهد الأميركيون بذهول جماعي، ولساعات طوال، "ملحمة" مثول رئيسهم السابق دونالد ترامب أمام المحكمة الجنائية في نيويورك. بالنسبة إلى المشاهد العربي ليس هناك ما يدعو إلى الذهول في هذا المشهد "المديني" و"المدني". فقد سبق وأن شاهد رئيساً يفرّ بالطائرة، وآخر يُخلع، وثالثاً يقتل، من دون استدعاءات ولا لوائح اتهامية. وقبلهم جميعاً شاهد العرب جميعاً صور الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين عند القبض عليه في حفرة، وصور إعدامه بعد ذلك. أما الأميركيون، فقد مضى قرابة جيلين منذ شاهدوا رئيسهم نيكسون في التاسع من أغسطس/آب 1974 وهو يغادر البيت الأبيض على مروحيّته بعد دخول استقالته حيز التنفيذ إثر فضيحة "ووترغيت" الشهيرة. نيكسون نفسه الذي خرج من الحكم والسياسة بخطاب اعتبره بعضهم "تحفة" أعفاه من الإذلال العلني، ودّعه يوم جنازته في 27 أبريل/ نيسان 1994، خمسة رؤساء أميركيين، وهو تشريف يتعلّق بالمنصب والمكانة أكثر مما بالشخص نفسه.

هذا كله يجعل وصف وسائل الإعلام الأميركية حدث محاكمة ترامب بـ "التاريخي" و"غير المسبوق"، وصفاً ملائماً للحال، وهو ما دفع كبريات الشبكات الإخبارية الأميركية إلى تغطية الحدث تغطية حيّة وتنافسيّة وامتلأت الاستوديوهات بالمحللين والمعلقين والخبراء القانونيين، في حين توزع المراسلون وطواقم التصوير بين الشارع الذي يقع فيه برج ترامب والشارع الذي يقع فيه مبنى محكمة نيويورك، وما نقص من الصورة عوض عنه التصوير الجوّي المستمر بما في ذلك خلال انتقال موكب ترامب عبر شوارع نيويورك إلى مبنى المحكمة.

اقرأ أيضا: ستورمي دانيلز...ابنة عصر الشهرة والمفارقة الأميركية

سبق وأن شاهد العرب رئيساً يفرّ بالطائرة، وآخر يُخلع، وثالثاً يقتل، من دون استدعاءات ولا لوائح اتهامية وقبلهم جميعاً شاهدوا صور الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين عند القبض عليه في حفرة

رغم ذلك كله، فإنّ الصورة نفسها لم تقل الكثير. التوقعات بنشوب احتكاكات وأعمال شغب من قبل مناصري ترامب، لم تحدث. ترامب ظهر في لمحات مختلسة خلال صعوده السيارة، ثم نزوله منها، ثم دخوله قاعة المحكمة وخروجه منها. كان البطل الحقيقي النوافذ السود للسيارات المصفحة، والباب الأسود للغرفة التي ينتظر فيها ترامب مع محاميه ريثما يستدعى إلى قاعة المحكمة. وبالتالي لم يكن لدى وسائل الإعلام المرئية الكثير من العناصر التي يمكن أن تصنع سرديّة مشوّقة تتناسب مع حجم الحدث، سوى ربما أن تواصل انقسامها على حدّ وصف صحيفة أميركية "قبائل" بعضها منحاز إلى ترامب، وعلى رأسه "فوكس نيوز" وبعضها الآخر منحاز ضدّه، وعلى رأسه "سي إن إن"، أي أن تعوّض فقر المشهد بسيل لا ينقطع من الكلام. مذيعو "سي إن إن" أشاروا إلى أن الموكب أقلّ ضخامة من المتوقع، وهو "يخلو من "الدرّاجين" الذين يمنح حضورهم نوعاً من المهابة الإضافية، وقد حلت محلهم سيارات شرطة نيويورك. وتوقّف أحدهم بحيرة أمام هدوء المشهد المنقول جوّاً خلال انتقال ترامب إلى المحكمة "وكأنه يوم عادي في نيويورك"، إلا أن فقر المشهد و"هدوئه" لا يقلّلان من تاريخيته، فهو يذكّر الجميع "بأن لا أحد فوق القانون في أميركا".

تذكّر تلك الرحلة بين برج ترامب ومكتب مدعي عام مانهاتن، ألفن براغ، والتي يصل طولها إلى خمسة كيلومترات، كما معظم المشاهد المرتبطة بهذا الحدث، بالكثير من مشاهد مسلسل "توريث" (إنتاج شبكة "إتش بي أو")، وهو المسلسل الذي يبدو فصلاً متخيلاً من فصول حياة ترامب أو أيّ قطب أميركي من أقطاب الصناعة والأعمال والإعلام، لاسيما من ناحية اللقطات الجوية السريعة، وانتقال أبطال المسلسل بين المواكب والمطارات والأبراج، إلا أنه على عكس المسلسل لم يكن ممكناً اختلاس النظر إلى داخل السيارات نفسها، فكان على المعلقين التلفزيونيين ملء الفراغ عبر محاولة تخيّل ما الذي يشعر به ترامب في تلك اللحظات، وبعد ذلك حين نشرت أولى صور ترامب داخل قاعة المحكمة، وقد لاح عليه التجهم، انشغل المحللون في قراءة ملامح وجهه وما الذي تعكسه من أفكاره ومشاعره.

اقرأ أيضا: زعماء سبقوا ترمب إلى المحاكمة بتهم جنائية

تؤدّي التغطية التلفزيونية في أحداث جسام كهذه، دوراً مزدوجاً. فهي تنقل الخبر بتفاصيله (بما فيها غير المرئية مثل مشاعر ترامب)، وفي الوقت نفسه تؤدي دوراً ترفيهياً مسرحياً يملأ فيه الجميع حيزاً من السردية المتوقعة أو المرغوبة من جمهور هذه الشبكة أو تلك. شاشة "فوكس نيوز" بدت ذروة درامية متواصلة لذلك العرض، استخدم فيها المذيعون والمعلقون والمحللون والخبراء كلّ العدّة الكلامية التي تعكس "سريالية" ما يجري وترسخ رواية الاضطهاد السياسي الذي يتعرض له ترامب من قبل "سوروس وأمثاله"، في حين وجد مذيعو "سي إن إن" في تشبيه بعضهم ترامب بنلسون منديلا أو حتى بالسيد المسيح، أمراً مقززاً "لا أريد أن أعلّق حتى لا أشتم" مثلما قال مذيع رئيس في "سي إن إن".

رغم ما سبق عن حال الذهول الأميركية، انطلاقاً من تاريخية ولا مسبوقية هذا الحدث، فإن الحياة الأميركية العامة تبدو دائماً مشدودة إلى هذه العلانية أو الفضائحية، وتبدو المحاكمات جزءاً أساسياً من هذا العرض. قبل نحو تسعين عاماً، في 1935 شاهد الأميركيون على عشرة آلاف شاشة سينمائية (من أصل 14 ألفاً في البلاد) مشاهد إخبارية من محاكمة برونو ريتشارد هوبمن الذي اختطف وقتل ابن عائلة لاندبرغ الثرية الشهيرة. وقبل سبعين عاماً سمح قانونياً بوضع كاميرات في قاعات المحاكم الأميركية، وفي الخمسينات من القرن الماضي شاهد الأميركيون جلسات الاستجواب المكارثية مع كتاب وفنانين وشخصيات اتهموا بأنهم شيوعيون. تعاقبت الصور والتغطيات بعد ذلك، منها على سبيل المثال محاكمة ابن الممثل الشهير مارلون براندو بتهمة قتل صديق أخته، وتضمنت المحاكمة شهادة علانية لبراندو نفسه، لكن المحاكمة الأشهر تلفزيونياً تظلّ محاكمة لاعب كرة القدم الأميركية أو جيه سيمبسون والتي تعتبر الأعلى مشاهدة في التاريخ.

تؤدّي التغطية التلفزيونية في أحداث جسام كهذه، دوراً مزدوجاً. فهي تنقل الخبر بتفاصيله وفي الوقت نفسه تؤدي دوراً ترفيهياً مسرحياً يملأ فيه الجميع حيزاً من السردية المتوقعة أو المرغوبة من جمهور هذه الشبكة أو تلك

في العالم العربي ربما ليس هناك شيء مشابه لهذا سوى جلسات محاكمة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، أو بعدها بسنوات جلسات محاكمة الرئيس المصري الراحل محمد حسني مبارك. في جميع هذه المحاكمات، وآخرها ترامب، يطغى على المشاهد حسّ اختلاس النظر، وفي حالات مشحونة سياسياً كالتي شهدناها أمس، يسهل لمس التشفّي عند كارهي ترامب، والغضب العارم عند أنصاره، إلا أن قوّة هذه المشاهد، والتي تجعلها شعبية إلى هذه الدرجة، تكمن في رؤية شخص نافذ يدخل إلى المبنى نفسه الذي يدخل إليه الآلاف يومياً، حيث بمجرد أن يصبح الشخص هناك، كما علّق أحد المحللين التلفزيونيين "يفقد السيطرة على حياته ويسلّمها لآخرين"، من رجال شرطة ومحامين يتحكمون بكلّ أفعاله وتحركاته. وبصرف النظر عن الموقف السياسي من ترامب، فقد كان يسهل رؤية خيبة أمل الجميع بالأمس حين أعلن موعد جلسة الاستماع المقبلة في القضية إلى ديسمبر، فهذا يعني أن العرض قد تأجّل، وربما انتهى، قبل أن يكتسب الزخم الكافي.

font change