روسيا آخر الدول الكبرى الثلاث، التي تعلن عقيدتها الاستراتيجية وتصورها لنفسها وحلفائها وخصومها... والعالم الذي تريد.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي وقّع الوثيقة قبل أيام، سبقه الرئيسان الصيني شي جينبيغ والأميركي جو بايدن، باعلان كل منهما الاستراتيجيا الخاصة لبلاده وطموحاتها وتهديداتها. استراتيجيات متحاربة وكلمات مخاض العالم الذي نخرج منه وذاك الذي ندخل اليه.
"العقيدة" التي أعلنها بوتين ضمن "استراتيجيا السياسة الخارجية"، بعد اجتماعه بمجلس الأمن الروسي في 31 مارس/آذار، لم ترسم خريطة طريق لعمل المؤسسات الحكومية وحسب، بل قدمت نظرته إلى روسيا والعالم: أميركا والغرب "تهديد وجودي" والمحرك الرئيسي لـ"السياسة المعادية لروسيا، وأكبر تهديد يواجه العالم وتطور البشرية". لذلك فإن التركيز، حسب العقيدة الروسية الجديدة، يتمثل في "القضاء على ما تبقى من هيمنة أميركية"، وإن كانت "روسيا لا ترى نفسها عدوا للغرب" ولا تملك "نيات عدائية ضده".
أما الصين والهند ، فهما "صديقتان" في القاموس الروسي. لذلك، تراهن موسكو على "قبول الغرب" لعالم جديد "متعدد الاقطاب" قائم على التعامل المتكافئ، ليحل بدلا من عالم احادي القطب، تهمين عليه أميركا منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.
واقع الحال، ان المعركة، ليست بين موسكو والغرب، رغم الصدام بينهما في اوكرانيا. المعركة الحقيقية هي بين واشنطن وبكين. ومثلما يراهن بوتين على الرئيس الصيني شي جينبينغ، كي يكسر الهيمنة الأميركية ويصنعا معا النظام الجديد الذي يكون لروسيا فيه، مقعد قيادي-شريك، فإن الرئيس شي يراهن على "الشراكة الاستراتيجية" مع بوتين كي يواجها أميركا. كان هذا واضحا في رمزيات وبيانات زيارة الرئيس شي جينبينغ لبوتين بين 20 و22 مارس/آذار وزيارة بوتين- شي في الصين قبل حرب اوكرانيا. رسالة شي العلنية: لن نقبل هزيمة روسية في أوكرانيا. الهدف الضمني، لنعمل معا على تفكيك النظام العالمي الأميركي.
المعركة بين الصين الصاعدة وأميركا النازلة من أحاديتها القطبية: هذا ما يمكن تلمسه من الاستراتيجيتين الأميركية والصينية اللتين أعلنتا نهاية العام الماضي
المعركة بين الصين الصاعدة وأميركا النازلة من أحاديتها القطبية: هذا ما يمكن تلمسه من الاستراتيجيتين الأميركية والصينية اللتين أعلنتا نهاية العام الماضي. الرئيس شي، قدم تصوره للعالم استكمالا لـ"مبادرة الحزام والطريق"، إذ أعلن في مؤتمر الحزب الشيوعي في أكتوبر/تشرين الأول الماضي سياسة خارجية أكثر حزما، بعدما قدّم "رؤية صينية للأمن المشترك والشامل والتعاوني والمستدام"، وترجمها بجولاته الخارجية وزيارته الرياض في ديسمبر/كانون الأول، وبانتقال بكين إلى المبادرة. اذ، بيّنت أهمية الموقع الاستراتيجي للمملكة في العالم العربي لدى الصين، وأهمية تأمين الممرات البحرية الحيوية لـ"الحزام والطريق". وجرى التعبير عن ذلك برعاية بكين اتفاقا لاستئناف العلاقات الديبلوماسية بين السعودية وإيران، يمكن ان يغير المضيّ به، الكثير في المنطقة والعالم.
أكثر ما كان يعرف عن الصين القديمة، الحذر في الإقدام على خطوات سياسية أو توفير عضلات عسكرية لأي مبادرة تقوم بها. لكن التحركات الصينية في محيطها بعد اقتراب أميركا منه ومن تايوان، غيّرت سلوكيات بكين، التي ترى تخلي واشنطن عن سياستها القديمة بـ "الصين واحدة".
أما بايدن، فيعتبر الشرق الأقصى أمرا حيويا لازدهار الاقتصاد الأميركي. لذلك صنّفت "استراتيجيا الدفاع الوطني" لوزارة الدفاع (البنتاغون) في أكتوبر من العام الماضي و"استراتيجيا الأمن القومي الأوسع" للبيت الأبيض، الهيمنةَ الصينية على آسيا باعتبارها "أخطر" تهديد للأمن القومي الأميركي و"منافسا أكبر".
قراءات الاستراتيجيات، توحي وكأن الصين تأخذ مكان الاتحاد السوفياتي في العقيدة الأميركية في ثمانينات القرن الماضي، قبل أن تتحول إلى "شريك" في إدارة بيل كلينتون في 1994
موقع "المنافس" وضعت واشنطن، بكين فيه، بعد عقود من التأرجح في العلاقات والنفوذ، من زيارة ريتشارد نيكسون لبكين في 1972، إلى تحييد أميركا للصين في "الحرب الباردة" ضد الاتحاد السوفياتي. كانت بكين، تعتبر في زمن الرئيس اوباما "مركز تأثير" ثم دخل معها في تعاون "غير مسبوق"، قبل أن يعتبرها الرئيس دونالد ترامب صاحب نظرية "أميركا أولا"، عبارة عن "تحدٍّ لقوة أميركا ونفوذها ومصالحها".
قراءات الاستراتيجيات، توحي وكأن الصين تأخذ مكان الاتحاد السوفياتي في العقيدة الأميركية في ثمانينات القرن الماضي، قبل أن تتحول إلى "شريك" في إدارة بيل كلينتون في 1994. و"استراتيجيا الدفاع الوطني الأميركي" الجديدة ترى روسيا، "متراجعة ومنهكة" وأقلّ خطرا من الصين حتى مع الحرب في أوكرانيا، وإن كانت لا تزال "تشكل تهديدا مباشرا ومستمرا لنظام الأمن الإقليمي في أوروبا، ومصدرا للاضطراب وعدم الاستقرار على مستوى العالم".
لكن الاستراتيجيات الجديدة، صراع القواميس في معركة أكبر. حرب أوكرانيا، مفصلية في التعبئة الاميركية – الصينية. كل طرف يشحن الرأي العام والأصدقاء القدماء ويبني تحالفات جديدة. استغلها بايدن لتقوية تحالفات قديمة في أوروبا والمحيط الهادئ مثل حلف شمال الأطلسي (ناتو) و"كواد" الأميركي-الياباني-الهندي-الاوسترالي، اضافة الى "اوكوس" الأميركي – البريطاني – الاوسترالي. كما استغلها الرئيس شي، لجلب بوتين إلى الحضن الصيني، مع تشكيل كتل واختراقات اقليمية اقليمية ودولية كثيرة.
من دروس التاريخ، أن الامبراطوريات لا تترك هيمنتها القيادية إلا بعد حرب. لا تزال أميركا والصين، تمسكان بخطوط الديبلوماسية، كان أخرها لقاء بايدن- شي في بالي الاندونيسية، والرقص على حبال متعددة، بين المنافسة والشراكة والصراع، على الرغم من التداخلات والاحتكاكات في ساحات وفضاءات و"بالونات".