"القصيد هو المقابل المضاد للحاسوب"
بول سيلان
ما تواضعنا على تسميته حاسوبا، وهي كلمة تحيل على اللفظ الإنكليزي computer (أي الحاسوب القابل للبرمجة)، يُطلق عليه الفرنسيون لفظ ordinateur. وإذا كانت الكلمة الإنكليزية تحيل على الحساب calculateur، فإن اللفظ الفرنسي يحيل على الأصل اللاتيني ordo، الذي يعني في الوقت ذاته الأمر والنظام. فالأورديناتور هو ما يفرضالقواعد وينظم: ordinator celui qui règle et met en ordre.غير أن المعاني التي تنطوي عليها هذه الألفاظ انصهرت في ما بينها لتدل على الوظيفة الأساس التي تقوم بها هذه الآلة العجيبة: التنظيم من طريق الحساب، أي ما كان هايدغر يطلق عليه "الفكرالحسابي".
يجسد الحاسوب إذاً الكيفية التي غدا بها العالَم يتكلم أعدادا، وبالتالي هو يفرض نفسه كلغة جديدة أي "تلك اللغة والكتابة العقلانية" التي كان يحلم بها لايبنتز، والتي تخاطب "الفهم بدل العيون"، و"البصيرة بدل الأبصار"، فتتمكن من أن "تردّ أشكال البرهان جميعها إلى نوع من الحسابات"، في أفق ذلك الحساب العام الذي من شأنه أن "يولد كتابة عالمية"(لايبنتز)،
سيتساءل هايدغر حول ماهية الحاسوب في أكثر نصوصه شفافية في ما يخص موضوع التقنية. هذا النصّ يحمل عنوان: "لغة التراث، واللغة التقنية" Langue de tradition et langue technique. وهي محاضرة ألقيت في مدرسة المهندسين سنة 1962.سيبين في هذه المحاضرة، كيف أصبحت اللغة الطبيعية مع الحاسوب مجرد حامل لمعلومات، وكيف فقدت قدرتها على "حمل الشيء على الظهور".
ترتكز الكومبيوترات على مبادئ الحساب التي تقوم عليها التقنية التي تحوّل الكلاممن حيث هو قول، إلى لغة-رسالة تنحلّ إلى معلومات من طريق العلامات. المهم هنا هو أن الإمكانات التقنية التي توفّرها الآلة هي التي تملي على الكلام الكيفية التي ينبغي أن يكون عليها لكي يكون كلاما. يتلقى الكلام خصائصه وتحديداته من الإمكانات التقنية لإنتاج العلامات، التي تنفذ سلسلة متواصلة من قرارات النَّعم-لا بأسرع ما يمكن. من هنا المعالجة الآلية للغة، التي تسعى إلى إقامة نماذج صورية بهدف إقامة ترجمة آلية وتلخيص آلي للنصوص. هكذا يُفرغ الكلام من دلالاته البشرية، من روحه وجسده، لكي ينحلّ إلى هيكل عظمي من المعلومات يرمي إلى إقامة لوغاريتمات تُمكّن من إجراء الحساب.
المعالجة الآلية للغة، التي تسعى إلى إقامة نماذج صورية بهدف إقامة ترجمة آلية وتلخيص آلي للنصوص، تفرغ الكلام من دلالاته البشرية، من روحه وجسده، لكي ينحلّ إلى هيكل عظمي من المعلومات
لإدراك مدى التحوّل الذي تمارسه التقنية على اللغة ينبغي أن نميّز، مع هايدغر، الكلام Parole عنالخطاب Discours . من هنا عناوين بعض محاضراته: "سيرا نحو الكلام"، و"كلام أنكسمندر". في الكلام لا مكان للتحليل والضبط، ولا للدعوة والتعليم. الفكر، ينبغي له أن يقال من طريق الكلام وليس من طريق خطاب. الكلام يتكلم الوجودَ ولا يتكلم عنه. الخطاب يستدل ويتكلم عن، أما الكلام فيسير نحو. الكلام يُتناقل، إنه لغة الموروث، اللغة المثقلة بالزمن، إنه الصوت الذي يأتينا من أعماق التاريخ، ذلك الصوت الذي يتكلم، حتى وإن لم يكن مسموعا، حتى وإن كان صمتا. مقابل هذا الكلام الذيينقلالفكر، هناك ما أطلق عليه نيتشه: "التسيير الإداري للفكر" L'administration de la pensée. مقابل الكلام، هناك الخطاب، والخطاب يُتَوصل إليه، ويبرهن عليه، إنه استدلال، ونحن الذين نسير نحوه ونستدل عليه وندل نحوه. نحن نتلقىكلام أنكسمندر وكلام هيراقليط، ونتدارس"خطاب المنهج" لديكارت Discours de la méthode، و"الخطاب حول اللامساواة" لروسو Discours sur l'inégalité. وهذا ما أصبح الحاسوب يسهّله علينا.
في إمكاننا هنا أن نقتبس في هذا السياق عبارة دولوز: "الكلام وسخ، أما الكتابة فهي نظيفة"، شريطة أن نحمّلها معنى آخر غير الذي حمّله إياها صاحبها. ذلك أن الكلام ينطوي على أكثر من دلالة، فهو، إذ يتناقل، فإنه لا ينفك يتوالد، ويُحمّل معاني إضافية. وحتى إن نحن حاولنا أن نتداركه، و"نصحح" ما قلناه باستعمال عبارات مثل: "عفوا أريد أن أقول"، "معذرة فأنا أقصد"، فإننا لا نستطيع أن نمحو ما صدر عنا في البداية كما سبق لرولان بارث أن بيّن. كأن الكلام لا ينفك يتغلف بمسوّدته، وهو بذلك على عكس الكتابة، والكتابة الآلية على الخصوص، التي تكون نظيفة ناصعة البياض، والتي تتمكن من محو مسوّدتها و"التحرّر" منها، وربما من أجل ذلك فإننا نربط الكتابة دوما بـ"التحرير". في هذا المعنى، الكلام كثيف، وحتى إن سعى نحو التوضيح والإبانة، فإنه يعجز عن إخفاء تردده وارتباكه، بل لبسه وغموض معانيه وتشابكها. الكلام بطبيعته يحمل أكثر من معنى، إنه دائم الالتباس، على عكس الكتابة، والكتابة التقنية على الخصوص، التي تكون "مسطحة" وحيدة الدلالة.
مع الحاسوب إذاً، تتحدد اللغة بالتقنية التي تفرغ الكلام مما ينقله، فتأخذ العلامة في بعدها الواحد وتقضي على كل حمولة وشحنة مجازية ومعانٍ ثانية. من هنا تتعذر برمجة اللغة المجازية، ولو أنها برمجت، فإنها لا تُنقل بلا روح فحسب، وإنما أيضا بلا جسد، لتغدو مجرد علامات عاجزة عن قول الأشياء بأن تفسح لها المجال للظهور. اللغة التقنية تُفقد الكلام هذه القدرة الكشافة، فتستبعد الكلام، كي "تعالج" الخطاب.