بيروت: في دقيقتين وسبع عشرة ثانية قال موسى الشامي ابن بلدة جرجوع الجنوبية كلّ شيء عن البلاد ومضى، وذلك في رسالة صوتية مسجلة أرسلها إلى صديقه علي قبيل انتحاره.
لم يتركنا نسمع صوت الرصاصة التي أطلقها على نفسه، وكأنه كان يستعجل الركون إلى السكينة والصمت هربا من صخب الموت وسلب الكرامة الذي يمزق كيانه وكيان كلّ اللبنانيين.
قال موسى في رسالته مخاطبا صديقه: "قل لدعاء (زوجته) موسى يحبها كثيرا، ولكنني لم أعد قادرا. لقد تعبت وقرفت من هذه الحياة... يا علي، سامحني ودع الجميع يسامحونني، ولا تسمح لأحد بالتحدث عني بالسوء، وأنا وأولادي جميعا أمانة في رقبتك".
محمد الشامي، قريب موسى، كتب مقالا في موقع "أساس ميديا" بعنوان "لماذا انتحر ابن عمتي موسى الشامي؟" جاء فيه: "لم ندرك، نحن المحيطين بموسى، ما كان يوجع قلبه، ولم يحسب أخوة موسى أو أهله أو أصدقاؤه المقرّبون أنّ أزمته كانت تخنقه فيما هو لا يبوح باختناقه لأحد".
أضاف: "في بلاد الله الواسعة، في زمن الأزمات، يتظاهر أمثال موسى، يعترضون، ينظّمون تجمّعات ويهتفون ضدّ السلطة، كما كانوا يفعلون خلال ثورة 17 تشرين. لكن في جنوب لبنان الضيّق، فإنّ الاعتراض جريمة، والمعترضين "عملاء" يحاصرهم المحازبون، ويهدّدهم الحاكمون، ويلاحقهم عسس الأحزاب. وجد موسى نفسه بين سلّة الانتحار وذلّة الحياة، فأطلق النار على نفسه حاسما النقاش، ومهوّنا على المحازبين العناء".
نستنتج مما ورد في رسالة موسى وفي مقال محمد أن الانتحار في جنوب لبنان هو رد فعل على جريمة موصوفة وشاملة، تغلق كل أبواب الاحتجاج والعيش، وتسحب من الناس كراماتهم وحرياتهم وعزة نفسهم.
ليس من قبيل المصادفة تواتر أخبار الانتحار في بيئة واحدة وفي فترة زمنية متقاربة، فإضافة الى موسى الشامي ابن بلدة جرجوع الجنوبية شهد الجنوب انتحار حسين مروة من بلدة الزرارية، ومحمد ابراهيم من بلدة الوردانية، كما انتحر علي مشهور أبو حمدان في البقاع.
في كل قصص الانتحار هذه تتكرّر العناوين نفسها التي تحيل على أزمة اقتصادية حادّة مقرونة بقمع عنيف لكل أشكال التعبير وسحق للحريات وسلب للكرامات.
المعايير نفسها تنطبق على انتحار بيار صقر ابن زحلة الذي يقطن في منطقة المتن. بيار كان قد أعلن عزمه على الانتحار في نص مطول نشره على صفحته على موقع "فيسبوك". لم ينجح أحد في ثنيه عن قراره، وقد نفذ انتحاره في منطقة صنين بالقرب من كنيسة.
بيار شخصية معروفة اشتهر بجولاته في شتى المناطق اللبنانية ونشره صوراً تظهر جمال الطبيعة، كما كان يملك معملا لصنع اللوحات الإعلانية، وقد اضطر إلى إقفاله بعدما عجز عن دفع إيجاره.
اللافت في خطاب انتحاره كان الإشارة الواضحة إلى الفاعلين خلافا لخطابات الانتحار التي خرجت من البيئة الجنوبية.
يعلن صقر بوضوح: "اعتبروني شهيدا، أو بالضبط ضحية الانهيار الذي تقف خلفه كتلة الشر المعممة بالأسود، والتي تختبئ تحت الأرض في الضاحية. أنا ضحيته وضحية توابعه الفاسدين اللصوص الذين تواطأوا معه مقابل المال والسلطة".
ذلك الانهيار الذي يشكل القاسم المشترك في كلمات المنتحرين الأخيرة ليس سوى أحد تجليات حضور القوة القاهرة التي تسمي نفسها "حزب الله" في الحياة العامة في لبنان، وقد بلغ ذروته في الآونة الأخيرة في مشهدية دمار شامل طاول كل بنى الأمان في الميادين كافة فوجد الناس أنفسهم عراة.
الانتحار في هذا المقام يبدو محاولة لترميم العالم بالغياب عنه.