كانت ستورمي دانيلز، نجمة الافلام الاباحية الأميركية، تعرف حين نشرت كتابها "كشف المستور" أو حرفيا "إفشاء تام"، الذي تروي فيه قصة حياتها، مع تركيز خاص على علاقة مزعومة ربطتها بالرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، أن القارئ سيقفز مباشرة إلى هذا الفصل: اللقاء بترامب وما جرى بينهما، ليس فقط لأن هذا هو الهدف الحقيقي من الكتاب والدافع وراء تأليفه ونشره، بل لأن القصة في حدّ ذاتها، وإن كانت تروى من زاوية واحدة، هي زاوية ستورمز، تظلّ مثيرة للاهتمام: نجمة أفلام إباحية تروي تفاصيل لقائها في غرفة فندق برجل الأعمال الذي أصبح بعدها بعشر سنوات رئيس أقوى دولة في العالم.
لم أقرأ الكتاب في المرة الأولى التي صدر فيها عام 2018، أولا، لأنني لا أحب القصص الفضائحية، وقصة ستيلز كانت تفوح منذ اللحظة الأولى بالفضائحية. وثانيا، لأن ترامب كان ما زال رئيسا، وكنت مثل كثر أعتقد أنه سيفوز بولاية ثانية، وكان مسلسل "التشويق" المرتبط بحياته ومواقفه وتصريحاته، يملأ شاشات التلفزة ومواقع التواصل الاجتماعي. فمن يحتاج إلى المزيد من ترامب وقصصه في ذلك الوقت! أما الآن وقد أصبح أول رئيس أميركي في التاريخ توجه ضده لائحة اتهام، مع كلّ ما قد يعنيه ذلك، فإن اسم ستورمي دانيلز، برز ثانية، ومعه كتابها الذي جعلها ثاني امرأة في التاريخ الأميركي تتصدّر الأخبار بهذه الطريقة بعد مونيكا لوينسكي صاحبة فضيحة الرئيس الأميركي الديمقراطي الأسبق بيل كلينتون.
يبدو لافتا سعي دانيلز طوال ثلث الكتاب تقريبا، مع شريكها في التأليف كيفن كار أوليري، إلى رسم صورة عنها تتحدّى طوال الوقت الصورة النمطية عن نجمات الأفلام الإباحية، بل عن النجمات عموما
— Asharq News الشرق للأخبار (@AsharqNews) March 31, 2023
لم أقفز سريعا إلى الفصل الثالث، مثلما توقّعت دانيلز نفسها من القراء أن يفعلوا محقّين، حين كتبت: "حسنا، أعرف أنك قفزت إلى هذا الفصل". يبدو لافتا سعي دانيلز طوال ثلث الكتاب تقريبا، مع شريكها في التأليف كيفن كار أوليري، إلى رسم صورة عنها تتحدّى طوال الوقت الصورة النمطية عن نجمات الأفلام الإباحية، بل عن النجمات عموما، فهي ليست ضحية المجتمع (ترفض ربط حادثة اغتصابها في مراهقتها باتجاهها إلى الأفلام الاباحية، معللة بأن صديقتها اغتصبت من قبل الشخص نفسه لكنها اتخذت مسارا مختلفا في حياتها) ولا استدرجت إلى عالم لا تريده، بل ثمة إصرار على كونها شخصية مستقلة، اختارت مسار حياتها بنفسها، واستطاعت النجاح بـ"ذكائها وموهبتها وقوة إرادتها". تفاصيل تستطيع أن تتخيّلها منذ البداية فيلما سينمائيا، خصوصا ونحن نرافق ستيفاني غريغوري كليفورد (اسمها الأصلي) المولودة في مارس/ آذار1979، من بداياتها المتواضعة، إلى نشأتها الصعبة، إلى المكانة المفترضة لها في المشهد الثقافي والإعلامي والسياسي الأميركي الراهن.
تقديم محامي دانيلز مايكل أفيناتي (مواليد 1971) للكتاب ليس من دون دلالة، فهو من أكثر المساهمين في رسم صورة دانيلز منذ توليه قضيتها ضد ترامب في 2016. وهو حريص بالضبط على تقديمها بهذه الصورة: "ما يجعل ستورمي دانيلز فريدة من نوعها وجاهزة إلى هذا الحدّ للدور المهم الذي قامت به، هو أنها تمتلك دوما من تكون، وهي واثقة كلّ الثقة بهويتها كلّ يوم...في زمن أصبحت فيه الصورة كل شيء، والجميع يتنافس على الصورة المثالية على إنستجرام أو المنشور المثالي على تويتر، فإن ستورمي هي... نفسها".
ستورمي دانيلز هي إذن بعين ذاتها، وبعيون المقربين منها والمدافعين عن "قضيتها"، متصالحة مع ذاتها ولا تزعم لنفسها شيئا آخر، ولا تلهث مثل غيرها وراء الصورة والشهرة. إلا أنّ الصورة بالضبط هي ما يدور حوله الكتاب برمته: دانيلز هي النموذج المضاد لدونالد ترامب، هو ولد وفي فمه ملعقة من ذهب(تروي مثلا كيف فوجئت حين وجدت في حمامه أدوات عناية شخصية ذهبية)، وهي عصامية شقّت طريقها بنفسها في الحياة، بل وتخلّت عن أبويها البيولوجيين، لأنهما لم يكونا يريدانها في المقام الأول، ثم لأنهما "لم يكونا والدين صالحين" (طلاق تسرد دانيلز آثاره عليها بالتفصيل)، مثلما نفهم في الفصل الأول، واتخذت لنفسها اسما غير الاسم الذي ولدت به.
وهي نموذج مضاد أيضا في أنها تمثّل قيما معاكسة لترامب. بداية من أنها امرأة في المقام الأول، في "عالم ذكوري يستغل المرأة ويضطهدها ويحاربها"، وترامب يمثّل في الكتاب النموذج الذكوري المطلق بطبيعة الحال.وهي اختارت بإرادتها أن تكون ابنة رجلين متزوجين، أي أنها تدعم موقفهما، بل وإنها إذ تعترف في الكتاب أنها ربما تكون قد خسرت جمهورها المناصر لـ "الحزب الجمهوري"في خضم معركتها مع ترامب، فإنها كسبت مناصرة النساء والسود والمثليين الذين صاروا يتدفقون إلى ناديها لإبداء الدعم لها.
دانيلز هي النموذج المضاد لدونالد ترامب، هو ولد وفي فمه ملعقة من ذهب وهي "عصامية" شقّت طريقها بنفسها في الحياة، بل وتخلّت عن أبويها البيولوجيين، لأنهما لم يكونا يريدانها في المقام الأول، ثم لأنهما "لم يكونا والدين صالحين" واتخذت لنفسها اسما غير الاسم الذي ولدت به
ابنة تكساس هذه لديها حلم واحد، وهو أن تعيش إنسانة غفلا مع عائلتها وحصانها، في مزرعتها وأن تمضي في شؤون حياتها اليومية مع ابنتها الوحيدة دون أن يشار إليها بالبنان. هذا لا يقصد منه القول إنها تخجل بمهنتها أو ماضيها أو مسيرتها، بل للقول إنها تميز بين الشهرة الفضائحية المتأتية من مهنتها في عالم الافلام الاباحية وبين النجاح المستحقّ. وهي تصرّ على صفة "مؤلفة ومخرجة سينمائية" أحد أكبر مشاريعها كان فيلم بعنوان "المطلوبة" Wanted (الكلمة تلعب على معنى "المرغوبة" أيضا) من تأليفها وإخراجها، تستطيع من خلاله أن تظهر للعالم "معدنها الحقيقي"وموهبتها الأكيدة. وهي تكرّر أكثر من مرة طوال الكتاب فكرة أنها كاتبة ومخرجة سينمائية كتبت وأخرجت أكثر من 70 فيلما للبالغين.
قبل الشروع في قراءة الكتاب نرى صورة فوتوغرافية لدانيلز وهي في سن المراهقة تركب حصانا، وهي رسالة أخرى من رسائل كتاب "النجمة" الأبرز حاليا في أميركا، وربما في العالم، بأنها في نهاية المطاف، ورغم عموميتها وكمّ الافتضاح في سيرتها، بما في ذلك الفصل الأخير مع ترامب، امرأة خاصة وذات أحلام بسيطة في الوقت نفسه. حلم اقتناء حصان تكرره دانيلز خلال ليلة لقائها الشهيرة مع ترامب، وفي مواضع أخرى من الكتاب. ولعله ليس من قبيل الصدفة أن تبدأ دانيلز كتابها بمشهد حضورها احتفالا تكريميا لها بمناسبة الإعلان عن "يوم ستورمي دانيلز" من قبل بلدية مدينة "ويست هوليوود" (وهو يوم حقيقي بالفعل) عام 2018، ففي هذا الاحتفال الذي يتخذ طابع الاعتراف الاجتماعي بها سيحتشد جميع من يؤيدون دانيلز بوصفها امرأة "حقيقية" تمثل البشر "الحقيقيين" ضدّ "زيف" ترامب وجماعته.
هذه المرأة "الحقيقية والصادقة"، دون أن يحرمها ذلك من صفات تحرص عليها طوال الوقت مثل الذكاء والاستقلالية والطموح والمواظبة، تقبل دعوة ترامب عام 2006، عبر أحد مساعديه، إلى العشاء في الجناح الفندقي الفاخر الخاص به.بقية القصة معروفة منذ نشر الكتاب. وإذا كان من وصف يمكن الاطمئنان تماما إلى مصداقيته في حكايتها عن هذا اللقاء، هو أنها لا تحاول أن تظهر أن ترامب فرض عليها شيئا. والباقي حوار داخلي حول أنها استدرجت إلى هذا الموقف، ولم تكن دعوة حقيقية إلى العشاء، بل إلى شي آخر، وما شابه ذلك من تأملات ذاتية في الموقف وكيف كان عليها أن تتصرف، قبل أن تجد نفسهامعه في السرير.
قصة ستورمي دانيلز ومسيرتها تبقى أولا وأخيرا، وبصرف النظر عن مدى الصدق أو الفبركة فيها، جزءا من ظاهرة الشهرة التي غذّتها السينما والتلفزيون والصحافة على مرّ العقود الماضية، حتى أصبحت استثمارا قائما بذاته له قوانينه وأسسه وقواعده التجارية، وبلغت اليوم مداها الأقصى عبر مواقع التواصل الاجتماعي
فرصة ذهبية
لعلّ اللحظة المهمة التي لا تخفيها دانيلز نفسها هي "الفرصة الذهبية" التي رأتها هي والمقربون منها العارفون بقصتها مع ترامب وبأنها تعتزم نشرها في كتاب، وقعت في 16يونيو 2015، حين أعلن ترامب عن إطلاق حملته الرئاسية لجعل"أميركا عظيمة ثانية"، ورأت ذلك على شاشة التلفزيون، فكانت تلك اللحظة المناسبة لتجديد طموحها بنشر وقائع لقائها ترامب، وما أعقب ذلك أيضا معروف من الصفقة التي تمت عبر محامي ترامب مايكل كوهن بأن تصمت عن سرد القصة مقابل 130 ألف دولار، إلى المشكلات التي واجهتها حتى لحظة صدور الكتاب، ومنها القبض عليها وبقائها في الأصفاد ليلة كاملة.
قصة ستورمي دانيلز ومسيرتها تبقى أولا وأخيرا، وبصرف النظر عن مدى الصدق أو الفبركة فيها، جزءا من ظاهرة الشهرة التي غذّتها السينما والتلفزيون والصحافة على مرّ العقود الماضية، حتى أصبحت استثمارا قائما بذاته له قوانينه وأسسه وقواعده التجارية، وبلغت اليوم مداها الأقصى عبر مواقع التواصل الاجتماعي.كما أنها قصة المفارقة الأميركية، فمثلما حلم ترامب بأن يصبح رئيسا للولايات المتحدة الأميركية، رغم أنه ليس ابن المؤسسة السياسية التقليدية، حلمت ممثلة أفلام اباحية لم يكن يحقّ لها يوما الظهور في برنامج "ترامب" التلفزيوني "المبتدئ" بسبب مهنتها، فإذا بها تملأ الشاشات الإخبارية حول العالم، بوصفها المرأة التي جرّت رئيس أقوى دولة في العالم إلى المحكمة.