لا بدّ أن تكون الاضطرابات الدستورية التي اندلعت في إسرائيل خلال الأيام الأخيرة قد أحرجت العديد من الإسرائيليين، بالنسبة إلى دولة تفتخر بأنها منارة للديموقراطية في الشرق الأوسط.
فبعدما شكّل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حكومة يمكن اعتبارها الأكثر يمينية في تاريخ الدولة الصهيونية الممتد على 75 عاما، استخدم آخر فترة أمضاها في منصبه، فرصة لإطلاق برنامج إصلاح مثير للجدال سيقيّد تنفيذه، في رأي النقاد، صلاحيات المحكمة العليا في إسرائيل.
يصمم ائتلاف نتنياهو، وهو مجموعة من الأحزاب اليمينية والقومية المتطرفة والمتشددة، على المضي قدما في التشريع الذي يهدف إلى إضعاف قدرة المحكمة على ممارسة دور الرقابة على البرلمان، فضلا عن منح الحكومة السيطرة على تعيين القضاة.
يريد نتنياهو الحدّ من قدرة المحكمة الإسرائيلية العليا على إصدار أحكامها ضدّ الهيئة التشريعية والسلطة التنفيذية، ما سيسمح للكنيست بتجاوز قرارات المحكمة العليا بغالبية بسيطة من الأصوات. وستكون النتيجة الفعلية لذلك تحييد استقلالية المحكمة.
لم يتسبب الاقتراح فقط في اندلاع احتجاج وطني في إسرائيل، حيث تجمدت الحياة في البلاد بسبب موجة من الاضرابات أوقفت بالفعل الرحلات الجوية من المطار الرئيسي في البلاد واليه، بل أجبر نتنياهو أيضا على تأجيل زيارة مقررة للعاصمة البريطانية بعدما رفض الطيارون الإسرائيليون نقله.
لم تأتِ الانتقادات من داخل إسرائيل فحسب، بل انهالت انتقادات شديدة من الخارج، حيث أعرب الرئيس الأميركي جو بايدن عن قلقه حيال خطط الحكومة الإسرائيلية لإصلاح النظام القضائي في البلاد.
وقال بيان صادر عن البيت الأبيض عقب مكالمة بين بايدن ونتنياهو، وُصفت بأنها صريحة وبناءة، إن الرئيس "شدد على إيمانه بأن القيم الديموقراطية كانت دائما، ويجب أن تظل، سمة مميزة للعلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وبأن المجتمعات الديموقراطية تتعزز بضوابط وتوازنات حقيقية، وبأنه يجب متابعة التغييرات الأساسية بأوسع قاعدة ممكنة من الدعم الشعبي".
أثار تحرك نتنياهو للحد من سلطات القضاء جدالا سياسيا واسعا حول شخصية الرجل السياسية. إذ على الرغم من كونه بات الآن رئيس وزراء إسرائيل الأطول خدمة، فإن حكمه يتعرض للهجوم من جهات عدة.
وقد ناشد الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ شخصيا نتنياهو وقف التشريع، داعيا القادة الإسرائيليين إلى إيجاد حل وسط في أقرب وقت ممكن. وقال "من أجل وحدة شعب إسرائيل ومن أجل المسؤولية، أدعوكم إلى وقف التشريع على الفور". وأدى الاقتراح إلى استقالة القنصل العام الإسرائيلي في نيويورك، آساف زمير، الذي قدم استقالته احتجاجا على مشروع الاصلاح.
في غضون ذلك، أقال نتنياهو وزير دفاعه يوآف غالانت بعدما دعا الحكومة يوم السبت إلى سحب التشريع، قائلا إن الخلافات حول الإجراءات تهدد أمن إسرائيل، حيث انضم آلاف من جنود الاحتياط في الجيش إلى الاحتجاجات ورفضوا استدعاءهم للتدريب.
وقد أُجبِر نتنياهو على مضض على تعليق التشريع المقترح، في ظل خطر تعرض حكومته للانغماس الكامل في نطاق الاحتجاجات الهائلة. واعترف الزعيم الإسرائيلي البالغ من العمر 73 عاما في خطاب متلفز بث في عموم البلاد يوم الإثنين بأن حزمة الإصلاحات القضائية التي اقترحها قسمت البلاد قسمين، وقال إنه سيؤجل التشريع حتى جلسة جديدة للكنيست، البرلمان الإسرائيلي.
وقال نتنياهو "عندما تكون هناك فرصة لتجنب الحرب الأهلية من خلال الحوار، فأنا، كرئيس للوزراء، سآخذ بعض الوقت المستقطع للحوار".
يبقى أن نرى ما إذا كان عرض نتنياهو تأجيل التشريع سيكون كافيا لإنقاذ حكومته الائتلافية، بالنظر إلى قوة المعارضة للإصلاحات، أم سنرى السياسي الذي عُرف باسم الساحر – بسبب قدرته على الصمود والبقاء – يغادر منصبه في نهاية المطاف.
لا شكّ أن قرار نتنياهو الانحياز إلى الأحزاب اليمينية القومية المتطرفة لتشكيل إدارته بعد فوزه في الانتخابات الإسرائيلية العامة العام الماضي، هو أهم التحديات الحالية التي يعاني منها.
يبقى أن نرى ما إذا كان عرض نتنياهو تأجيل التشريع سيكون كافيا لإنقاذ حكومته الائتلافية، بالنظر إلى قوة المعارضة للإصلاحات، أم سنرى السياسي الذي عُرف باسم الساحر – بسبب قدرته على الصمود والبقاء – يغادر منصبه في نهاية المطاف
فبسبب الطبيعة المعقدة للنظام السياسي الإسرائيلي، تتكون الحكومات الإسرائيلية دائما من ائتلافات. لكن نتنياهو يجد نفسه الآن، بتحالفه مع فصائل متشددة عدة، يتعامل مع حلفاء سياسيين يريدون إضعاف المحكمة العليا كي يتمكنوا من توسيع المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة حيث يسعى الفلسطينيون لإقامة دولتهم. بالإضافة إلى ذلك، تريد الأحزاب اليهودية الدينية المتطرفة في الائتلاف تمرير قانون يعفي جماعاتها من الخدمة في الجيش، وهي خطوة تخشى هذه الأحزاب أن تقوم المحكمة العليا بإبطالها إذا لم تُقلص صلاحياتها.
ويتزايد الضغط لإصلاح المحكمة العليا منذ سنوات بسبب مزاعم بأنها ذات ميول يسارية ونخبوية، وبأنها أصبحت شديدة التدخل في المجال السياسي، وغالبا ما تضع حقوق الأقليات قبل المصالح الوطنية.
وبحسب منتقديه، فإن لرغبة نتنياهو في الحد من سلطة النظام القضائي الإسرائيلي سببا وجيها، نظرا لأنه أمضى معظم السنوات القليلة الماضية قيد التحقيق في شأن مزاعم الاحتيال.
ولكن في دولة لا تملك دستورا مكتوبا وتعتبر المحكمة العليا فيها هي الحكم النهائي في عمليتها الديموقراطية، ستعتبر أي محاولة للتدخل في شؤون المؤسسة هجوما على القيم الديموقراطية الأساسية لإسرائيل.
سيتعرض نتنياهو بعد الاضطرابات في الأيام الأخيرة الى ضغوط شديدة لحل الخلاف بطريقة تُنهي الانقسامات المريرة التي أثارتها مقترحاته. ويقول الزعيم الإسرائيلي إنه يعتزم الآن السعي إلى حوار مع القادة الآخرين المختلفين معه سياسيا لإيجاد توافق في الآراء في شأن إصلاح المحكمة العليا. وسيقرر نجاحه في النهاية ما إذا كان هو وحلفاؤه في الائتلاف سيبقون في مناصبهم أم لا.