المتزمّتون وثقافة الاستعداء

المتزمّتون وثقافة الاستعداء

جاء في بعض كتب السير أن "أمير المؤمنين في الحديث" شعبة بن الحجاج الواسطي، ويكنّونه بأبي بسطام، كان مسافرا على بغلته إلى بغداد من البصرة التي كانت محل إقامته، فلقيه رجل من معارفه فسأله عن وجهته، فقال: إلى السلطان، أستعديه على سويد بن سعيد، فإنه قد روى حديث "مَن عَشِق فعفّ فكتم فمات فهو شهيد".

ما هو الشنيع في هذه الرواية حتى تستحق هذا الاستعداء الخطير؟ إنها مجرد واحدة من روايات كثيرة ينطوي بعضها على ما هو أشدّ من هذا. يبدو أن لدى المتزمتين من رجال الدين أزمة قديمة مع الحب. ولو أنك عدت إلى رائعة فيكتور هوغو "أحدب نوتردام" لوجدت أن حبّ الأحدب لأزميرالدا الغجرية كان من النوع غير المشروط، وينطوي على عطاء غير محدود. وفيما كان الضابط فيبوس يحبها حبا شهوانيا عبثيا، كان حب القسّ للمرأة نفسها شديد التعقيد والتركيب، فقد فطر فؤاده حبه لها عندما رآها للمرة الأولى، لكنه لا يجد مانعا من جلدها أمام الملأ لأسباب أخلاقية ودينية وعنصرية أيضا. إنه تمزق خطير بين ما يريد أن يكونه، وما هو عليه بالفعل. لِمَ لا يكون الحب خيرا؟ هذه قضية محسومة بالنسبة إلى المتزمّت، الحب شهوة وشر. إنه سمة عالمية في كل متزمّت في جميع الديانات، لذلك وجدنا رمزا كبيرا هو القديس أوغسطين يتحدث عن شهوة الطفل ومعصية الطفل ونفس الطفل العاصية!

إن قررنا العودة إلى أبي بسطام، فيحسُن بنا ألا نغفل عن اللقب "أمير المؤمنين في الحديث"، وهو لقب يُقدّمه على أنه شريك لأمير المؤمنين في السياسة، من هنا رُسم المضمار الذي سيتحرك فيه هؤلاء الناس، والذي أوصل في نهاية المطاف إلى ولادة حركات الإسلام السياسي وانتشارها، سواء تلك القديمة منها، والتي بلغت ذروتها في العصور الوسطى، أو بالمعنى الحديث للسياسة بما هي تنافس على السلطة، لا سعي لخدمة مصالح الناس والمساهمة في البناء والعمران الحضاريين.

أن تعيش حياة جافة، بلا حب ولا طرب، يبقى خيارا شخصيا، لكن المشكلة تكمن في فرض هذا الخيار على عموم الناس وفي تشويه المفاهيم والقيم الدينية السمحاء تحقيقا لمآرب ومنافع شخصية

شعبة هذا، كان غيورا على الحديث غاية الغيرة، يلاحق الرواة غير المؤهلين، فإما أن يكفوا عن الحديث أو يسلّ  عليهم سيف الدولة. روي عن الإمام الشافعي قوله: كان شعبة يجيء إلى الرجل - يعني الذي ليس أهلا للحديث في نظره - فيقول: "لا تحدّث وإلا استعديت عليك السلطان"، وروي عنه قوله: "لو كان لي سيف ورمح لغزوت سويد بن سعيد". كان شعبة جزءا من ثقافة الاستعداء التي كان الجميع يمارسها ضد الجميع، فكلهم يرفعون إن استطاعوا سيف السلطان بعضهم في وجوه بعض، وقد يُجرح الرجل بأمر لا علاقة له بالصدق والأمانة، حدث هذا مع راوية من الرواة المشهورين اسمه حجاج بن منهال، ضعّف أحاديثه شعبة بحجة أنه "سمع في بيته صوت طرب!". الطرب في مثل هذه الروايات مثل الحب، شيء بغيض وخطر، ربما لأنه يرقق القلب، ويجمع الناس، ويصفي النفوس.

أن تعيش حياة جافة، بلا حب ولا طرب، يبقى خيارا شخصيا، لكن المشكلة تكمن في فرض هذا الخيار على عموم الناس وفي تشويه المفاهيم والقيم الدينية السمحاء تحقيقا لمآرب ومنافع شخصية. إنها ممارسة للسلطة في غير محلها، لم يتضح الخلل فيها للبشرية إلا بعد استقرار مفهوم الدولة الحديثة.

لطالما سعى المتزمتون للاستحواذ على السلطة، فإن لم يصلوا إليها، فلا أقل من أن يسعوا إلى أن يكونوا شركاء فيها، ولا مانع لديهم من تقديم بعض التنازلات من أجل هذه "المصلحة الراجحة" فالأمر دنيوي برمته. خصوصا عندما نخلع عن كل البشر ملابسهم فلا تبقى ثياب تميز رجل الدين عن سواه، الكل يريد المزيد من السلطة والقوة التي تعطيه حق التسلط حتى وإن كان أفقر الفقراء وأضعف الضعفاء، وما الإنسان إلا ذئب أخيه الإنسان، كما قال توماس هوبز ذات نهار. ثقافة الاستعداء ليست حكرا على طائفة معينة، بل الجميع يمارسها ضد الجميع، إلا أن الدولة، عبر كل العصور وفي كل مكان، كانت دائما أعقل.

font change