من المعلوم لكلّ مشتغل في الترجمة، ومهتم بتطورها، الدور المهم الذي لعبته النصوص المقدسة في بزوغ هذه الصنعة بادئ ذي بدء، ثم في تطورها وصولا إلى زمننا الراهن، عندما باتت الترجمة فرعا أكاديميا معترفا به وله مناهجه ونظرياته وتقاليده. ولنا في ترجمة الكتاب المقدس من اليونانية إلى اللاتينية خير مثال على ذلك. وليس من المفاجئ أن مفاهيم تعدّ رائجة اليوم في عالم الترجمة، مثل الترجمة الحرفية، والترجمة التأويلية أو الدلالية، والخيانة والأمانة، وما شابه ذلك من مفاهيم، قد طرحت للتداول منذ تلك البدايات المبكرة. فأيّ موضع أنسب من الزجّ بكلمتي "الخيانة" و"الأمانة" من نقل كلمة الله؟ بل إن الكلمة الأنسب لمقتضى الحال، والتي وردت على سبيل المثال، في الحكم الذي قضى بإعدام الإنجليزي وليام تيندال Wiliam Tyndale في العام 1536بسبب ترجمته الكتاب المقدّس من الإغريقية إلى الإنجليزية، كانت "الهرطقة"، تلك الكلمة الفضفاضة التي علّق الآلاف بسببها على الصليب، والتي توازي في الحكم آنف الذكر، بين الترجمة والكفر وتجعل منهما فعلا واحدا أو "جريمة" واحدة.
وفي هذا السياق يلفت الباحثان كيفن ويندل وأنتوني بيم، في مقال لهما قبل أزيد من عشر سنوات، إلى حادثة أخرى، قريبة زمنيا من حادثة إعدام تيندال، وهي إعدام الفرنسي إتيان دوليه Etienne Dolet عام 1545، بتهمة "سوء ترجمته" mistranslation لمحاورات أفلاطون. وكان دوليه الذي اعتبر من يترجم النصوص حرفيا بأنه "مفتقر إلى الحكمة"، قد أوّل عبارة أفلاطون "بعد الموت لا يعود لك من وجود"، فأضاف إليها عبارة "ولن تكون شيئا على الإطلاق"، وهذا التأويل عدّته السلطات الدينية في ذلك الوقت إنكارا للحياة الآخرة، وما يستتبعه ذلك من تكفير وإقامة لحدّ السيف.
سلمان رشدي
ننتقل في الزمن خمسة قرون ونصف القرن، حيث شهدت نهايات القرن العشرين، حادثة فظيعة، عندما قتل، في يوليو 1991، الباحث والمترجم الياباني هيتوشي إيغاراشي، طعنا في مكتبه في الجامعة التي يدرس فيها، وذلك بعد محاولة قتل سبقتها بعام لدى إعلانه عن ترجمة رواية سلمان رشدي "آيات شيطانية". وفي يوليو من العام نفسه جرت محاولة قتل المترجم الإيطالي الراحل إيتوري كابريولو، بوسيلة الطعن أيضا، للسبب نفسه، وهو ترجمة الرواية المحرّمة. الدلالات والصلات واضحة في ما ذكرت، بين القرون الوسطى في أوروبا، وظلامية القرن العشرين التي كادت تودي بحياة سلمان رشدي نفسه قبل فترة ليست بطويلة.
جريمة سلمان رشدي هي التجرؤ على النص المقدّس من خلال التأويل والتخييل. أما جريمة إيغاراشي وكابريولو، فهي ببساطة الترجمة، حيث أن ناقل الكفر، ما زال يعتبر في مناطق كثيرة من العالم، وعلى عكس القول المأثور الشائع، كافرا بالثلاثة. فهو شريك أساسي في عملية تلقي الكتاب في اللغة التي يترجم إليها، وإن لم يكن له يد في كتابته. وهذا يقودني إلى موضوع هذه المداخلة، وهو الترجمة الآلية، أو الترجمة في زمن الذكاء الاصطناعي، بناء على ثنائية الأمانة (الحرفية) والخيانة (التأويل)، والثقل الذي يحتله كلّ منهما في ترجمة النص الإبداعي، والشعري على وجه الخصوص. فأسأل: ماذا لو لم يكن المترجم "شريكا" في صنع عملية التلقي أو صنع النص في اللغة والثقافة المتلقّيتين له؟ فالنفس أمارة بالسوء، والخيانة مفهوم عريض قد يودي بالمرء إلى التهلكة؟ فلم لا نسلّم الأمر إلى آلة أو إلى ذكاء أعلى أو عقل رقميّ لوغاريثمي، يحلّ أخيرا المعضلة المطروحة منذ مئات السنين وإلى يومنا هذا، حول الطريقة المثلى لترجمة النص؟ سؤال تتصاعد حدّته ودرجة أهميته، كلما دعت الحاجة وتزايدت إلى التأويل والتخييل. فترجمة لوحة إعلانية أو إشارة سير أو تعليمات تشغيل مكنسة كهربائية، لا تستدعي التأويل، ولا تستفزّ المخيلة، الذي قد تتطلبه ترجمة خبر صحافي على سبيل المثال، فترجمة خبر صحافي قد تتطلب أحيانا بعض الإسهاب أو الشرح، بحسب ثقافة المتلقي وقربه أو بعده عن الخبر المنقول، أما ترجمة مقال سياسي فستتطلب حكما درجة أعلى من التأويل، لكنّ غياب التأويل هنا لن يحجب على الأرجح إمكانية التلقي وإن قلّل منها.
أما حين نتكلم على الآداب، بما في ذلك النقد الأدبي، فإن التأويل والتخييل لا يعودان خيارا، بل إنني أزعم أنهما مقتضيان من مقتضيات الترجمة وضرورتان من ضروراتها. والنقاش هنا لا يعود متعلقا ببديهية ممارسة تأويل النص من عدمه، بل بمدى الحرية الممارسة في عملية التأويل هذه. يحضر الشعر هنا، بوصفه الجنس الأدبي الأكثر إثارة للحفيظة عندما يتعلق الأمر بالترجمة والتأويل.
أدع هذه المسألة جانبا، لمزيد من الدرس اللاحق، وأنتقل سريعا إلى الترجمة الآلية، لأسرد تجربة قمت بها أخيرا، فقد طلبت على التوالي من برنامج الترجمة لدى غوغل، ثم من مالئ الدنيا وشاغل الناس هذه الأيام، وأعني به برنامج الذكاء الصناعي "تشات جي بي تي" ترجمة مطلع قصيدة محمود درويش "في القدس" (لا تعتذر عما فعلت، 2004)، إلى اللغة الإنجليزية، يقول درويش:
في القدس، أعني داخل السور القديم،
أسير من زمن إلى زمن، بلا ذكرى
تصوّبني.
وقد جاءت ترجمة غوغل كالآتي:
In Jerusalem, I mean inside the old wall
I walk from time to time without memory
aim me
أما ترجمة "تشات جي بي تي"، فكانت كالآتي:
In Jerusalem, inside the old walls
I wander from time to time
without a memory to guide me
وأما الترجمة البشرية، فقد اخترتها لأشهر من ترجموا درويش فادي جودة، فهي على النحو التالي:
In Jerusalem, and I mean within the
ancient walls
I walk from one epoch to another
Without a memory
To guide me