لم يدر في خلد عالم الفيزياء الفلكية البريطاني آرثر إدينغتون (1882-1942) حين اقترح أن الاندماج النووي "سيكون مصدراً لا ينفد للطاقة إذا تحقق إتقانه"، أن منشأة الإشعال الوطنية الأميركية ستتمكن للمرة الأولى بعد مئة سنة على قوله هذا، تحديداً في الخامس من ديسمبر/كانون الأول الماضي، من توليد طاقة من خلال هذه العملية تفوق حجماً الطاقة المستهلكة لإطلاقها. لماذا خطرت الفكرة بداية في ذهن خبير في الفيزياء الفلكية؟ لأن الاندماج النووي عملية تحصل في قلب النجوم، ومنها شمسنا، قلب مجموعتنا الشمسية المؤلفة من ثمانية كواكب. فهذه النجمة البالغة من العمر 4.6 مليارات سنة، تدمج نحو 600 مليون طن من الهيدروجين في الثانية فتنتج في الثانية نفسها طاقة توازي ما يستهلكه البشر في سنة كاملة (418 إكساجول وفق تقديرات وكالة الطاقة الدولية، والإكساجول يوازي 278 تيراوات ساعة تقريباً، والتيراوات ساعة يساوي تريليون وات ساعة).
تركز البحوث في هذا المضمار على دمج نظيرين من نظائر الهيدروجين، الديوتيريوم والتريتيوم، ونظير أي عنصر من العناصر يشبه العنصر الأساسي لكنه يضم عدداً مختلفاً من النيوترونات في نواته، علماً بأن ذرّة أي عنصر تتألف من نواة مكونة من بروتونات ونيوترونات تطوف حولها إلكترونات، في حين أن الهيدروجين هو العنصر الأكثر توافراً في الكون. ينتج من الاندماج نيوترون وذرّة هيليوم شديدا الطاقة، والهيليوم هو العنصر التالي للهيدروجين في الجدول الدوري الذي يرتب العناصر الأساسية كلها بدءاً بالهيدروجين. لكن العملية المخبرية تتطلب ظروفاً ليست سهلة المنال، تشمل درجات حرارة تصل إلى مئة مليون درجة مئوية، ما يتطلب كميات ضخمة جداً من الطاقة. ولكي تكون أي عملية مجدية، يجب أن تصدر طاقة أكثر من تلك التي يستهلكها إطلاقها.
تطورات وتحديات تكنولوجية
يمكن إطلاق عملية الاندماج النووي بالحصر المغناطيسي حيث تحصر مغناطيسات شديدة القوة بلازما الهيدروجين، الوقود النووي للشمس الذي يتكون فقط من البروتونات بعد فصل الإلكترونات عنه بفعل الحرارة العالية، لفترات طويلة جداً من الوقت، أو بحصر القصور الذاتي، الذي يطلق التفاعل بنبضات قصيرة وشديدة ويُعَد أكثر كفاءة من الأول. وتُعتبر منشأة الإشعال الوطنية الأميركية من الجهات القليلة في العالم التي تملك التجهيزات الضرورية لتهيئة هذه الظروف المعقدة كلها، وهي تعتمد النوع الثاني من الحصر. إلى وقت قريب، لم تتمكن أي تجربة اندماج نووي من إطلاق طاقة أكبر من تلك المستهلكة، وكان أفضل رقم 65 في المئة المسجل عام 1997 في الحلقة الأوروبية المشتركة التي تتخذ من المملكة المتحدة مقراً وتعتمد أسلوب الحصر المغناطيسي، أما التجربة الأخيرة، في منشأة الإشعال الوطنية الأميركية، فانتهى بها المطاف بنسبة 150 في المئة.
لكن الطريق لا يزال طويلا أمام اعتماد الاندماج النووي كمصدر مجدٍ للطاقة، ذلك أن نسبة تفوق الألف في المئة ضرورية لتوليد الكهرباء، مثلاً، بتكلفة معقولة، إلى جانب أن الإعداد للتجربة المخبرية لا يزال يتطلب كثيراً جداً من الوقت ولا يمكن إطلاق سوى بضع طلقات من طاقة الإدخال كل أسبوع. أما أي مفاعل تجاري فيجب أن يطلق 10 طلقات في الثانية خلال 365 يوماً سنوياً، وهذا تحدٍّ تكنولوجي ليس ببسيط. لكن شركات ناشئة كثيرة تحاول تطوير طريقة حصر القصور الذاتي. وثمة تحدٍّ مهمٌّ ثانٍ يتعلق بالوقود، ففي حين أن الديوتيريوم متوفر جداً في كوكبنا، فإن التريتيوم مشعّ وتضمحل طاقته الإشعاعية إلى النصف خلال فترة قصيرة نسبياً تبلغ 12.3 سنة. والتريتيوم مادة غير متوفرة من تلقاء نفسها، ويُقدَّر أن العالم يمتلك 30 كيلوغراماً فقط منه، في حين أن مفاعلاً يعمل بالاندماج النووي وينتج 500 ميغاوات من الكهرباء سيحتاج إلى 90 كيلوغراماً منه.
آفاق اقتصادية
يثير هذا المجال، ولا سيما منذ القفزة النوعية المسجلة في ديسمبر/كانون الأول، شهية المستثمرين، فهناك نحو 30 شركة ناشئة تطور مفاهيم المفاعلات التي تعمل بالاندماج النووي. وكانت الحكومة الأميركية أعلنت في مارس/آذار 2022 خطة طموحة لتسريع تطوير هذه التكنولوجيا على أن يبدأ تطبيقها التجاري عام 2032. وتنص الخطة على وجوب أن تعود هذه التكنولوجيا بالمنفعة على المجتمع، وعلى شراكة في هذا الصدد تجمع بين القطاعين العام والخاص، وعلى بناء مفاعل تجريبي خصصت له واشنطن 50 مليون دولار. لكن خبراء يرون أن التطبيق التجاري للاندماج النووي بعد عقد من الزمن فقط قد لا يكون أكثر من خيال جامح في ضوء التحديات التكنولوجية التي تواجهها التكنولوجيا. ونبه بعض هؤلاء الخبراء إلى أن تدهور المناخ يسير بوتيرة أسرع، لذلك لا يمكن الاتكال على الاندماج النووي وحده كطاقة بديلة في مكافحة هذه الظاهرة.
اقتصادياً أيضاً، تعتمد جدوى التطبيق التجاري على تراجع تكاليف إنتاج التريتيوم، فكل غرام منه يكلف إنتاجه نحو 30 ألف دولار، وهو إذ يتكون طبيعياً في أعلى طبقات الغلاف الجوي حين تصيب الأشعة الكونية جزيئات النيتروجين، يحتاج إنتاجه الصناعي إلى "قصف" بعض أصناف عنصر الليثيوم بالنيوترونات، والتريتيوم من المنتجات الثانوية في المفاعلات النووية. ولو استمرت التكلفة على ما هي عليه، سيكلف كل ميغاوات منتج بالاندماج النووي من تسعة إلى 10 أضعاف تكلفة إنتاجه من المصادر المعتمدة حالياً. هذا ناهيك بالتمويل الحكومي الضخم المطلوب لمشاريع الاندماج النووي، المملوكة حكومياً أو من القطاع الخاص. وعموماً، يُعَد الاندماج النووي تكنولوجيا آمنة، وهي ستوفر فور إتقانها ولو بعد زمن طويل مصدراً لا ينضب من الطاقة، ذا انبعاثات كربونية قريبة من الصفر يقلد ما يجري في الشمس وسائر النجوم لتوفير الطاقة التي تبقيها مشتعلة.
إحدى الميزات الرئيسية للاندماج النووي، عدم إنتاج انبعاثات الغازات الدفيئة أو نفايات نووية تبقى في الأجل البعيد ويصعب التخلص منها باستثناء، أساساً، الطمر الآمن ذي التكلفة المرتفعة. وعلى عكس الانشطار النووي الذي ينطوي على تقسيم الذرات لإطلاق الطاقة وإنتاج النفايات الإشعاعية، ينتج الاندماج النووي الهيليوم فقط. هذا يجعل الاندماج النووي مصدراً مشجعاً للطاقة النظيفة والمستدامة يمكن أن يساعد على التصدي لتغير المناخ وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري. ميزة أخرى للاندماج النووي هي إمكان توفير الطاقة بكميات كبيرة. ذلك أن الوقود المستخدم في الاندماج النووي، أي الهيدروجين، هو العنصر الأكثر وفرة في الكون، كما أسلفنا، ويمكن حتى لكمية صغيرة من الهيدروجين أن تنتج كمية كبيرة من الطاقة من خلال الاندماج. في الواقع، يقدر أن الطاقة التي ينتجها كيلوغرام واحد من الهيدروجين من طريق الاندماج، تعادل الطاقة التي ينتجها حرق 10 ملايين كيلوغرام من الوقود الأحفوري.
لن يذهب هباءً الهيليومُ الناتج من العملية. الهيليوم هو عنصر كيميائي غازي لا لون له ولا رائحة، وهو أحد العناصر الأكثر فقراً في الغلاف الجوي الأرضي. وعلى الرغم من اقتصار استخدامه على كميات صغيرة، له استخدامات مهمة في العديد من المجالات، بما في ذلك البالونات الهوائية التي تُطلَق في المناسبات والاحتفالات؛ ولأغراض التبريد في تكنولوجيا التصوير بالرنين المغناطيسي المستخدمة في الفحوص الطبية، وفي المفاعلات النووية، وفي التجارب الكيميائية والفيزيائية، وفي الأجهزة الكهربائية (مثل الكومبيوترات المحمولة والهواتف الذكية)، والليزرات؛ وكوقود للمحركات النفاثة في صواريخ الفضاء.