لا تنفك الولايات المتحدة الأميركية تشعل الحروب الاقتصادية والتجارية مع الصين، أصغيرة كانت هذه الحروب أم كبيرة، مباشرة أم عبر وكلاء، لا تقبل المنافسة، لا تترك أي حجة لبقية من العولمة ولا للاتفاقات التجارية الدولية التي تتوقف عند مصالحها.
آخر فصول هذه الحروب حرب الـ"تيك توك" المشتعلة التي شهدنا أحد أفلامها الهوليوودية قبل يومين في جلسة الاستماع إلى الرئيس التنفيذي لـ"تيك توك" شو زي تشو أمام مجلس النواب الأميركي.
ماذا أرادت الولايات المتحدة من مثول الرئيس التنفيذي لـ"تيك توك" أمام الكونغرس وما المغزى من إصرار رئيسة لجنة الطاقة والتجارة كاثي روجرز والأعضاء على عدم مناقشة أجوبة تشو والاكتفاء بسماع "نعم أم لا"، لاتهام التطبيق الأنجح عالميا بقدرته على التجسس على بيانات المستخدمين الأميركيين؟
تجاهلت كاثي روجرز وزملاؤها الخطة التي تعمل عليها "تيك توك" منذ عامين لفرض حماية مكثفة لبيانات الأميركيين المحمية أصلا وحجبها عن أي جهة غير مرخص لها، ولم تستمع الى التأكيدات أن الداتا في أميركا تخزن في"أوراكل" في تكساس؟
كانت جلسة في منتهى اللؤم والوقاحة، على الرغم من المطالعة المتماسكة التي قدمها تشو وفند فيها الكثير من الوقائع التي تظهر تفوق "تيك توك" على غيره من تطبيقات التواصل الاجتماعي لجهة حماية البيانات والمراهقين.
تجاهلت روجرز وزملاؤها الخطة التي تعمل عليها "تيك توك" منذ عامين تحت عنوان "Project Texas" لفرض حماية مكثفة لبيانات الأميركيين المحمية أصلا وحجبها عن أي جهة غير مرخص لها، أحكومية كانت أم لا. لم يعنِ لها، ولكل من استجوب تشو، قوله إن بيانات "تيك توك" في الولايات المتحدة تخزن افتراضيا في خدمة "أوراكل"، وهي شركة أميركية مقرها تكساس؟ وإنه يمكن فقط للموظفين الذين تم تقييمهم مسبقا وللعاملين في شركة جديدة باسم "تيك توك لأمن البيانات الأميركية" (Tik Tok US Data Security) التحكم في الوصول إلى هذه البيانات المخزنة في أنظمة أميركية وعلى التراب الأميركي؟
هذا فضلا عن خطط والتزامات أخرى تحدث عنها تشو، أقلها تقديم تقارير حول أمن البيانات إلى مجلس إدارة أميركي مستقل، وأن التطبيق سيوفر شفافية غير مسبوقة تسمح لمدققين مستقلين مثل "أوراكل" وغيرها بمراجعة كود المصدر والخوارزميات الخاصة بالتطبيق والتحقق من صحتها، وأن جميع البيانات الأميركية المحمية ستكون تحت حماية قانون الولايات المتحدة وتحت سيطرة فريق أمني بقيادة أميركية، بما يبدد المخاوف من خضوع هذه البيانات الى القانون الصيني. وهي اجراءات استثنائية لم يقدمها أيٌّ من تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي المماثلة لـ"تيك توك"، وفي معظمها أميركية، ولديها القدرة على خرق أمن البيانات والخصوصية والتلاعب بالمحتوى والتجسس على بيانات العالم أجمع!
150 مليون أميركي يستخدمون "تيك توك" حاليا، وخمسة ملايين مؤسسة صغيرة ومتوسطة تستخدم التطبيق للترويج لأعمالها وتنميتها في الولايات المتحدة، ولدى الشركة سبعة آلاف موظف على الأرض الأميركية.
29 مشرعا جمهوريا و23 مشرعا ديموقراطيا، جمعهم الاصرار على إسقاط "تيك توك" بالضربة القاضية، كما فعلت أميركا من قبل مع "هواوي" و"زد. تي. إي." (ZTE) مثلا. لم تكترث الإدارة الأميركية من الحزبين الجمهوري والديموقراطي، اللذين وحّدتهما "أم المعارك"، بكل ما قدمه تشو من حقائق عملية ومقترحات تصب في إرادة الولايات المتحدة وحماية أمنها القومي. فقد قوبل بحكم واحد: "لا بد من حظر التطبيق"بلا نقاش!
حلف شمال الأطلسي ينخرط في الحرب
هذا ما عبرت عنه رودجرز بالحرف الواحد متوجهة إلى تشو: "نحن لا نثق في أن "تيك توك" سوف تتبنى القيم الأميركية - قيم الحرية وحقوق الإنسان والابتكار".
لكن من أين تنبع ثقة أعضاء الكونغرس بـ"فايسبوك" و"انستاغرام" و"أمازون" و"تويتر" مثلا؟
لم يرأف لـ"بايت دانس" ان 150 مليون أميركي يستخدمون تطبيقها الأشهر "تيك توك"، أي نحو نصف عدد سكان الولايات المتحدة، وهم أحرار (مبدئيا) في نمط تفكيرهم وحرية خياراتهم، كما لم تكترث اللجنة بأن خمسة ملايين مؤسسة صغيرة ومتوسطة تستخدم التطبيق للترويج لأعمالها وتنميتها في الولايات المتحدة، وبأن لدى التطبيق سبعة آلاف موظف على الأرض الأميركية.
لعل أكثر ما كان يراه أعضاء اللجنة في تشو، شخصيته الصلبة ونظرته الواثقة كممثل للتطبيق الصيني الذي تفوق في أميركا والعالم على "انستاغرام" و"سنابشات" في مدة زمنية قصيرة، وغيّر طرق عمل وسائل التواصل الاجتماعي الى الأبد.
إنها حرب اقتصادية ساخنة بكل المقاييس؛ حرب خرجت منذ زمن عن مسار النزاع السياسي-الاقتصادي التقليدي بين ثقلين عالميين لا يتوانيان عن إظهار عدائهما، أحدهما للآخر، لتصب في حياة كل مواطن أميركي وتصل ارتداداتها الى أرجاء العالم.
وبسرعة وسائل التواصل، انتشرت عدوى الدعوات الى حظر التطبيق على الأجهزة الحكومية في البرلمان الأوروبي والمفوضية الأوروبية ومجلس الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وكندا وفرنسا ونيوزيلندا والنروج بسبب مخاوف تتعلق بـ"الأمن السيبراني". وفيما كان تشو يخضع للاستجواب، تضامن رئيس الوزراء الكندي، جاستن ترودو مع الموقف الأميركي، وكان لافتا موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال اجتماع وطني في ديسمبر/كانون الأول الماضي اتهم فيه "تيك توك" بفرض رقابة على المحتوى وقال: "تيك توك هي أكثر الشبكات الاجتماعية المسببة للاضطرابات (نفسيا) والأكثر فاعلية بين الشباب".
بذلك يكون حلف شمال الأطلسي قد انخرط بكل ثقله في الحرب العالمية على "تيك توك"، وليست هذه الحرب سوى امتداد طبيعي لحرب الرقاقات الميكروية وأشباه الموصلات التايوانية، ولم ينس العالم بعد التوتر الذي ساد عبر المحيطات عندما أصرت رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي على زيارة تايوان في أغسطس/آب الماضي، أكبر مصنع للرقاقات في العالم، والمعرضة لغزو الصين في أي وقت، بعدما فرضت إدارة الرئيس جو بايدن قيودا شاملة على توفير أشباه الموصلات المتطورة ومعدات صناعة الرقائق للشركات الصينية مخافة استخدام التكنولوجيا المتقدمة لتطوير أنظمتها العسكرية، بما في ذلك أسلحة الدمار الشامل.
سلاح الحزب الشيوعي الصيني
توجهت رودجرز الى الشعب الأميركي قائلة: "تيك توك سلاح للحزب الشيوعي الصيني للتجسس عليكم، والتلاعب بما ترونه واستغلاله للأجيال القادمة".
في ذكرى مرور عشرين عاما على غزو العراق، يذكّرنا هذا الكلام وهذه "الحملة الأطلسية" السياسية والإعلامية بتلك التي قادها الرئيس الاسبق جورج بوش الابن ورئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير وصحبهما المعروفين عشية غزو العراق بحجة أسلحة الدمار الشامل ووهمها. اليوم يبدو تطبيق "تيك توك" كأحد أسلحة الدمار الشامل الصينية التي يفترض القضاء عليها باكرا.