مزقت صيحات التكبير والتصفيق الحار جدار الصمت في أحد أحياء مدينة اسكندرون، إذ خرج للتو ناج من رحم المبنى المدمر بالكامل كوليد يبصر النور بعد مخاض عسير.
بدا الانهاك والذهول جلياً على وجوه المتطوعين الاسبان الذين شاركوا في عملية الانقاذ هذه. خرجوا بدورهم من تحت الانقاض يبحثون عن رفاقهم لتبديل المناوبة، فارتمى بعضهم بحضن بعض، فيما انزوى آخرون يدخنون. ذلك ترف لا تملكه فرق الانقاذ المحلية، فبقي عناصرها يعملون في الموقع رغم الارهاق إلى ان صرخ المسؤول بالجمع قائلاً "سيز سيس" أي اصمتوا. أطلق مساعده صفارة ورفع يديه في اشارةX قابلها بحركة مشابهة منقذ من الركام المواجه. ساد صمت مهيب تسمع معه الانفاس. توقفت الآليات عن العمل، أطفأت محركات السيارات العابرة تحت الجسر، أغلقت الهواتف ومنع الكلام والحركة. تسمرنا في مكاننا لا يتحرك فينا الا بؤبؤ العين فيما التصق بالوجوه غبار كثيف وأبخرة وسخام ملأ الجو من أثر حريق مرفأ اسكندرون. دقائق الانتظار بدت ساعات في ترقب أعجوبة أخرى، لكن الآمال تبددت سريعاً بأمر من المسعف يؤذن بمعاودة الحركة.
كان قد مر على الزلزال المدمر 6 ايام ومدن الجنوب التركي تعيش زمناً عجائبياً بين موت يحصد الالاف بدقائق وقلب ينبض تحت الانقاض لأسبوع أو أكثر. لكن العجائب بدأت تشح وتتلاشى بدورها، ولم يجد كثيرون سبيلاً الى تفسير ما يعايشونه إلا بالأساطير والماورائيات تداولونها كحقيقة علمية. مرة تسمع عن شابة خرجت سليمة لأن اشخاصاً اصحاء اطعموها واعتنوا بها تحت الانقاض ومرة عن طفل رضيع حماه 3 ملائكة وسلموه باليد للمنقذين الذي راحوا يبكون من شدة التأثر.
ويعتبر الزلزال الاخير الاكبر والاكثر تدميراً في التاريخ الحديث للبلاد بعد زلزال إرزنجان في العام 1939 الذي راح ضحيته نحو 32 الفاً، فيما عداد الموت الحالي قارب الـ 42 ألفاً حتى وقت الكتابة. وكانت الأضرار التي لحقت بإرزنجان الواقعة على "الصدع الاناضولي الشمالي" نفسه، واسعة النطاق لدرجة أن إعادة الاعمار لم تكن ممكنة، فتم التخلي بالكامل عن موقع المدينة القديم وأنشئت مدينة جديدة أبعد قليلاً نحو الشمال.
وهذا مصير قد تلقاه اليوم مدن وبلدات في ولاية هاتاي ويخشاه أكثر من يخشاه أهالي المدينة التاريخية الأكثر تضرراً وكشفاً لعقود من العلاقة المرتبكة بأنقرة. ذاك ان العام 1939 لا يعيد احياء "تروما" الزلازل فحسب، وهي متكررة في السياق التركي العام، بل هو أيضاً عام ضم لواء اسكندرون ومركزه مدينة أنطاكيا رسمياً الى الجمهورية التركية. انضمام جاء قسرياً الى حد بعيد فلم يقو على رأب الصدع الاجتماعي- السياسي بين الدولة المركزية وفسيفساء الهويات المحلية الدينية والعرقية. فبقي اللواء وأهله في منزلة بين منزلتين يتأرجح بين الاهمية الاستراتيجية والاقتصادية حيناً والتعثر والاهمال حيناً آخر.
ويقول كمال أكوغلو وهو أستاذ في جامعة بوازيجي في اسطنبول درس في كاليفورنيا ويتحدر من حي معشوقلو في أنطاكيا توجه اليها فور وقوع الزلزال مع نحو 50 متطوعاً "انا الوحيد بينهم الذي يتحدث العربية. وساعدني ذلك في الترجمة بين المنقذين والناس على الارض خصوصاً كبار السن".
وأضاف "انا من القلة القليلة من أبناء جيلي (ثلاثيني) ممن يتحدثون التركية بلا لهجة (عربية) واضحة. دربت نفسي على ذلك منذ الصغر واذكر جيداً كيف سعى كل من امي وابي الى منعنا من التحدث بالعربية نهائياً على رغم أنهما لم يتقنا التركية جيداً في ذلك الوقت". ويضيف أكوغلو وهو الوحيد من اسرته ومدرسته الابتدائية الذي يصل الى المرحلة الجامعية "كان ذلك الباب هو الوحيد للتعليم والترقي الاجتماعي. وكنت أهرب الى جدتي مريم، تغني لي بالعربية وتحدثني بها. ولكن ماذا بقي اليوم من مدينتي وناسها؟".