يعكس عيد الأم في الحادي والعشرين من مارس/ آذار كل عام، رمزية الأم وتضحياتها المختلفة. إنه الوجـه المحبب تكشفه السينما، وتضيـف عليه جوانب أُخرى.
قبل سقوطه من عل، يصيح جيمس كاغني فاردا يديه: "أماه. أنا ملك العالم". هذا قبل أن يتلقى رصاصات رجال الشرطة ويقطع المسافة بين القمّة التي وقف عليها والأرض التي استقبلته في ثوان.
الفيلم هو "حرارة بيضاء" (White Heat) ويدور حول مجرم له علاقة مركّبة مع أمه (مرغريت وشرلي). بالنسبة إليه هي كل ما يحتاجه من صداقة وحب يملأ قلبه ويمنحه الثقة بالنفس. هو "ابن الماما"، ليس بالمعنى المدلل بل على صعيد نفسي كان فرويد ليعلّق عليه لو أنه عاش حتى سنة 1949 عندما أنتج الفيلم.
شرف الأم
الأم، في الحياة وفي الكثير من الأفلام السينمائية، هي المرأة التي تعرف كل شيء. هي الزوجة المخلصة والأم الحنون ومدبّرة البيت وصاحبة الرأي الذي كثيرا ما يستمع الزوج والابن له ويقرّان به.
هي المدافع عن الأسرة والبيت. وهي المثال الذي يقتدى به ليس بالنسبة للولد فقط بل للابنة كذلك. فالفتيات يتوجهن لأمهاتهن بمشاكلهن، فالأم هي مستودع الأسرار الأول وليس الأب. لكن الأمهات لسن جميعا قالبا واحدا. نعم، هناك القاعدة التي تحتوي على ما سبق، لكن الاستثناءات كثيرة، فقد تكون الأم قاسية وقد تكون مدمنة وقد تكون غير متوازنة أو حتى عاطفية أكثر من اللزوم. والسينما، كونها تعكس الحياة وكل ما تنضح به الأفكار من خيال، نقلت تلك الأوجه وعبّرت عن نماذج الأم في العديد من الأفلام.
عندما يقسم فريد شوقي في بعض أفلامه بـ "وشرف أمي" فإنه يعظّمها إلى أعلى مصاف دنيوي ممكن. فشرف الأم ليس مصدر خلاف. لا يقول، وسواه، "وشرف أبويا" لأن هذا قد يكون مشكوكا به. قابل للتساؤل والشك، لكن “شرف الأم” أسمى من كل شيء آخر.
في فيلم "بداية ونهاية" تقوم الأم (أمينة رزق) بكل ما في وسعها للحفاظ على وحدة العائلة. لديها شاب ما زال طالبا (كمال حسين) وحسنين الشاكي دوما (عمر الشريف) وحسن الذي يقترب من السير في الطريق الخطأ (فريد شوقي) وفتاة ما زالت عانسا تحاول تجنب الوقوع في الخطيئة.
لا تعرف الأم ما وصلت به حال كل فرد من أفراد العائلة. تعتقد أنها ما زالت تجمع أبناءها ولا تعلم أن ابنتها (آمال فريد) باتت فتاة ليل لكي تساهم في تكاليف الحياة، ولا أن ابنها حسن بات بلطجيا ولا أن حسنين ما زال يحلم بما لا يستطيع الوصول إليه بعدما أصبح رجل شرطة. التوليفة بأسرها تؤازر الأم وأمينة رزق تجسد الدور بكل ما أوتيت به من أمارات التقوى والورع والرغبة الحثيثة في الدفاع عن وحدة العائلة، وإن لم تكن تدري أنها فشلت في تحقيق ذلك.
الحبكة، كما وضعها نجيب محفوظ في روايته "بداية ونهاية" وأخرجها فيلما صلاح أبو سيف سنة 1960. مرثاة اجتماعية شاملة، ولولا نهاية الفيلم الضعيفة (تنتحر الفتاة وينتحر شقيقها كذلك) لكان الفيلم أنجز كامل رؤيته حول وضع العائلة المصرية على الأقل في زمن أحداثه.
الممثلة أمينة رزق (1910-2003) كانت نموذجية في أدوار الأم العفيفة الخالية من كل الأخطاء. الرشيدة والبسيطة والواعية معا. الأم التي يمكن اعتبارها نموذجا للتضحية. هذا هو وضعها منذ أفلامها الأولى في الأربعينات مثل "الأم" (1945) و"كل بيت له راجل" (1949) و"البيت الكبير" (1949). في هذين الفيلمين الأخيرين مُنحت دور الأم اسمها أمينة، لكن في “مصطفى كامل” (1952) هي أم الزعيم ذاته وهي، بعد ذلك، الأم في معظم ما مثّلته من أدوار بعد ذلك.
الصورة النمطية
لعل المسألة هي في سمات الوجه، لكن أمينة رزق لم تكن الوحيدة التي كللت عملها بهذا الدور بل هناك علوية جميل وفردوس محمد وكريمة مختار. أحيانا ما يُسجل لهؤلاء أن نسبة تكرار المواقف لديهن والتعامل الميلودرامي مع الشخصية هي أقل مما وفّرته أمينة رزق التي شخّصت الدور ذاته بالملامح والتعابير ذاتها وبالكلمات نفسها.
للتنويع برزت كذلك ماري منيب كأم لا مثيل لها بين أمّهات السينما المصرية. حوّلت ماري منيب الأم إلى كاريكاتور كوميدي ووقفت دوما لصالح بناتها ضد أزواجهن. هي، بذلك، الحماة التي لا يتمناها الرجل في حياته.
لكن السينما المصرية، وربما العربية بكاملها، إذ وضعت الأم في مصاف تستحقه ولو بلون واحد متكرر غالبا، ساهمت في تنميط النظرة إلى المرأة على أساس أن عليها أن تكون أمّا حتى قبل زواجها وإنجابها.
على ذلك، هناك أفلام لم تجد من البشر من هو أنظف وأنصع من الأم ذاتها. المثال الناصع هنا هو فيلم محمد راضي "أمهات في المنفى" (1981) حيث المفاد الذي يخرج به المتفرج من الفيلم هو أن كل واحد إن لم يكن لصا أو خاطئا فإنه يتمنى أن يكون كذلك. وحدها الأم الطيبة (ومن هي سوى أمينة رزق) تعبر عن الضمير ولو أنه ضمير منهزم لا يقدّم ولا يؤخر كثيرا في مجريات الفيلم بل يحوّلها إلى حيز ثانوي.
الأم على حق في معظم ما تم إنتاجه من أفلام قدّمتها على الشاشة، لكن الأمر تطلّب، في العام 1982 مخرجا أكثر تعمّقا في مسألة الأم وتوابعها ودورها المهيمن على نحو أو آخر في حياة الأسرة. هذا المخرج كان يوسف شاهين والفيلم هو "حدوتة مصرية"، الفيلم الذي تحدّث عن حياة المخرج (أدى دوره نور الشريف) والشخصيات التي تحيط به. في هذا السياق يعرض لثلاث نساء في حياته لكل منهن طريقتها في التعامل معه والهيمنة عليه إلى حد مؤثر وهن زوجته وشقيقته ووالدته. يفتح المخرج أوراقه القديمة ليتكلم عن الجانب الآخر من التأثير العائلي على الإنسان صغيرا وكبيرا. عن تسلط الأم والأخت والزوجة. وعن الشعور الدفين بأنه ينتمي إلى الآخرين أكثر من انتمائه إلى نفسه.