تحظى قناة السويس بمكانة خاصة في وجدان المصريين والعرب. هي لم تكتسب مكانتها العريقة من كونها أول قناة حُفرت في التاريخ فحسب، ذلك أنها موقع جغرافي فريد على خريطة العالم يصل شرق الأرض بمغربها بأقصر الطرق وأسرعها ما بين البحر الأبيض المتوسط عند بورسعيد والبحر الأحمر في السويس.
قناة السويس قبلة للسفن والممر البحري المفضل لدول العالم في المنطقة، وركن أساسي في سلاسل الإمداد اللوجستية، يمر عبرها 12 في المئة من التجارة الدولية و10 في المئة من شحنات النفط والغاز العالمية ونحو 22 في المئة من تجارة الحاويات. لها ألف حساب في العلاقات الجيواستراتيجية، الاقتصادية والسياسية والعسكرية الدولية. تدرك مصر جيدا أن مفتاح أمنها القومي يرتبط بقناة السويس، المتعلق بدوره بأمن البحر الأحمر والدول المشاطئة له على الضفتين، كذلك الدول الأفريقية (الصومال وجيبوتي وأريتريا) المطلة على باب المندب.
من فكرة إنشاء قناة تربط البحرين الأحمر والمتوسط، في الألف الثاني قبل الميلاد كما يستدل من الآثار والمخطوطات القديمة (في عهد الفرعون سنوسرت الثالث في الألفية الثانية قبل الميلاد)، الى عقود من الامتياز الفرنسي ثم البريطاني لتشغيل القناة انتهت بعودتها إلى أحضان مصر بعد التأميم عام 1956 بإعلان جريء من الرئيس جمال عبد الناصر استجرّ عدوانا ثلاثيا من فرنسا وبريطانيا وإسرائيل لاسترجاع القناة وانتهى بانسحاب الدول الثلاث تحت ضغوط أميركية ودولية ومقاومة شعبية.
شريان الاقتصاد
عززت القناة، البالغ طولها 193 كيلومترا، موقع مصر على الخريطة السياسية والإقتصادية العالمية، واحتُفل في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي بمرور 153 سنة على افتتاحها في عهد الخديوي إسماعيل عام 1869 (كان طولها في حينه 164 كيلومترا)، هي أسرع الممرات الملاحية بين أوروبا وآسيا، والأكثر أمانا، مقارنة بالقنوات الأخرى في العالم. توفر من ثمانية إلى 11 يومًا أمام السفن العابرة من الشرق الأقصى إلى أوروبا، مقارنةً بطريق رأس الرجاء الصالح.
تعود عظمة القناة إلى عهد بنائها الذي استغرق عشر سنين واشترك في حفرها نحو مليون عامل مصري وقضى نحو 100 ألف مصري أثناء الحفر بسبب الجوع والعطش والأوبئة والسخرة والأشغال الشاقة. وهذا عدد هائل جعل القناة رمزا ومشروعا وطنيًّا قوميا جُبِل بدماء المصريين. وكان تأميم القناة محطة فخر رئيسة للمصريين أدت إلى فتح الأبواب أمام مشاريع وطنية كبرى، منها بناء السد العالي وكُتبت للقناة القصائد والأشعار.
شهدت القناة مراحل عدة من التوسعة والتحديث مواكِبةً تقدم صناعة النقل البحري، كان آخرها مشروع "قناة السويس الجديدة" عام 2015، القائم على إنشاء قناة موازية بطول 72 كيلومترا، تسمح بـ "تحقيق أكبر نسبة من الإزدواجية (الملاحة في الاتجاهين من دون توقف) في قناة السويس وزيادة نسبتها 50 في المئة من طول المجرى الملاحي، وتختصر وقت العبور ليكون 11 ساعة بدلًا من 18 ساعة لقافلة الشمال، كما تختصر زمن إنتظار السفن ليصبح ثلاث ساعات في أسوأ الظروف بدلا من 8 إلى 11 ساعة مما ينعكس على خفض كلفة الرحلة البحرية" ويرفع درجة تصنيف القناة، كما يستفاد من الموقع الإلكتروني لهيئة قناة السويس. والعمل جار على مشروع تطوير القطاع الجنوبي لقناة السويس الذي يتوقع أن ينتهي العمل به في عام 2023، لإنشاء قناة ازدواجية بمنطقة البحيرات لتصبح قناة السويس الجديدة التي تم افتتاحها في 2015 بطول 82 كيلومترا.
القناة "شريان الحياة" لمصر، فهي مصدر رئيسي مستدام للنقد الأجنبي الوارد إلى البلاد، تحقق نحو 21,7 مليون دولار في المتوسط يوميًّا من رسوم عبور السفن في الاتجاهين بين أوروبا وآسيا أو بين مراكز الاستهلاك والانتاج، بحسب إحصاءات عام 2022، وتوفر الخدمات الملاحية واللوجستية للسفن والناقلات التي تعبرها. وفي نهاية عام 2022، أعلنت هيئة قناة السويس إيرادات غير مسبوقة بلغت 8 مليارات دولار، في مقابل 6,3 مليارات دولار في عام 2021، وشهدت القناة عبور 23 ألف سفينة في عام 2022، أي بمعدل 63 سفينة يوميا، في مقابل 49 سفينة قبل مشروع التوسعة، بحسب إحصاءات الهيئة. ولعبت زيادة الرسوم الإضافية دورا كبيرا في رفع إيرادات القناة، حيث تراوحت الزيادة بين 10 و20 في المئة.
كابوس "إيفرغيفن"
أثبتت الأزمات العالمية المتتالية ريادة قناة السويس وأهميتها في المحافظة على استقرار سلاسل التوريد العالمية. على الرغم من ذلك، توقف العمل في القناة كليا في مناسبات عدة تفاوتت في أهميتها وتأثيرها، لأسباب سياسية أو مناخية وكنتيجة للحروب، كان آخرها أزمة جنوح الناقلة "إيفرغيفن" في مارس/ آذار 2021، وهي من أكبر سفن الحاويات في العالم. علقت عند الكيلو 151 في القناة، في طريقها من الصين إلى روتردام وأغلقت الممر الملاحي بشكل كامل لأكثر من ستة أيام، أدت الى اهتزاز حركة التجارة والملاحة الدولية واستنفرت إقتصادات دول المعمورة.