أسلحة الغزو الروسي لأوكرانيا ليست فقط الراجمات والصواريخ والمقاتلات والمسيرات بل يندرج من ضمنها الغذاء والطاقة والنقد على نحو يذكّر بمقولة هنري كيسنجر الشهيرة التالية:
من يتحكم بالإمدادات الغذائية يتحكم بالناس،
من يتحكم بالطاقة يمكنه التحكم بقارات بأكملها،
من يتحكم بالنقد يمكنه التحكم بالعالم.
في ذكرى المجاعة الأوكرانية التي أودت بحياة الملايين في شتاء 1932-1933 تنفيذا لأوامر جوزف ستالين، وبعد مصادرة الحبوب والبذور والماشية من أوكرانيا، صرح الرئيس الاوكراني فولوديمير زيلنسكي "في السابق حاولوا تدميرنا بالجوع، والآن بالظلام والبرد"، في إشارة الى انقطاع التيار الكهربائي على نطاق واسع بسبب القصف الروسي لبنية الطاقة الأوكرانية التحتية.
وكان الرئيس إيمانويل ماكرون، ندد في القمة التي انعقدت في كييف وخصصت للأمن الغذائي العالمي بالحرب الروسية على أوكرانيا التي تهدد العالم بأزمة غذائية وقال أن روسيا "تواصل استغلال الجوع كوسيلة للضغط والطعام كسلاح حرب".
استخدام "سلاح النقد" يعود الى زمن إعلان الدولار في اتفاقات "بريتون وودز" كعملة دفع وتسوية عالمية، وترسخ هذا الدور بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وإنشاء منظمة التجارة العالمية
وقد أفضت التنديدات الدولية في حينه الى اتفاق توصلت اليه أوكرانيا وروسيا في رعاية الأمم المتحدة وتركيا لتأمين ممر آمن لصادرات الحبوب الأوكرانية إلى دول العالم عبر البحر الأسود.
وحصل الأمر نفسه مع الطاقة، فقد أعلنت شركة "غازبروم" الروسية وقف العمل في خط ضخ الغاز إلى أوروبا، "نورد ستريم 1"، موضحة في البداية أن السبب موقت لنقص في قطع التبديل نتيجة العقوبات المفروضة على موسكو، لكنه تحول الى وقف دائم عقب إعلان وزراء المال في الدول السبع تحديد سقف لسعر الغاز الروسي تبعه لاحقا تحديد سقف آخر لسعر النفط .
اتهم الأوروبيون الرئيس بوتين باستخدام الطاقة كسلاح، فكارثة الغاز بحسب تعبير "ذي إيكونوميست"، دفعت وستدفع الى ارتفاع فواتير الطاقة على الأوروبيين وزيادة التكاليف على الشركات مما سيرفع الاسعار ويهدد بالركود ويجبر الحكومات على إنفاق مليارات الدولارات لتخفيف الأعباء عن مواطنيها. وتشير توقعات صندوق النقد الدولي إلى أن الناتج العالمي سيتراجع بنسبة 2 في المئة خلال سنة 2023.
وسيكون هناك توجه نحو مصادر وموارد أخرى للطاقة مثل الطاقة النووية والمتجددة من الرياح والأمواج والألواح الشمسية، ومن بينها أيضا الفحم بعدما تم استبعاده للحد من استخدام الكربون لمكافحة تغير المناخ الأوروبى.
بيد ان آثار الأمور على روسيا ستكون أكثر وطأة، فالطاقة هي شريان الحياة لاقتصادها حيث تشكل صادرات النفط والغاز الطبيعي نحو 40 في المئة من موازنتها ونحو 70 في المئة من صادراتها الإجمالية. ويعني قطعها الإمدادات عن أوروبا حرمانها من عائدات مهمة من العملة الصعبة، وبالتالي التدهور في مواردها المالية بما فيها تغطية تكاليف عملياتها العسكرية في أوكرانيا. لا سيما أن الأسواق الأخرى من الصعب أن تعوض السوق الأوروبية.
فالصين يمكن أن تزيد مشترياتها من النفط والغاز الروسيين، لكن هذا ليس كافيا وسيتطلب وقتا لتوسيع خط أنابيب سيبيريا. وتبقى الكمية أقل بكثير من تلك التي تستوردها أوروبا من روسيا سنويا، إذ تبلغ حاليا نحو 40 في المئة من الواردات الأوروبية خصوصا مع تقدم الصين التقني في انتاج الطاقة المتجددة، كما ستشترط بكين الشراء بسعر بخس وستدفع على الارجح بالعملة المحلية أو تقايضه بسلع وخدمات صينية وهذا لا يفيد بالطبع النظام الروسي.
وسيكون من المستبعد أيضا أن تتمكن روسيا من التعويل على الهند كسوق لغازها بديلا من السوق الأوروبية. فوارداتها تمثل 0,2 في المئة من صادرات موسكو من هذه المادة. ومن المؤكد انه لن تكون هناك عودة لأوروبا إلى الاعتماد على روسيا مرة أخرى في موضوع الطاقة.
التحدي الأساسي أمام العولمة كان استياء العديد من الدول في مقدمها روسيا والصين من الامتياز النقدي الذي انفردت به الولايات المتحدة عن الآخرين بطباعة الدولار لتحصل على ما تشاء من سلع وخدمات خارجية.
لقد استعمل سلاح النقد باكرا منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا عندما قررت شركة "غازبروم" قطع الغاز نهائيا عن أكبر شركة غاز في أوروبا وهي "إنجي" الفرنسية ردا على رفض الأخيرة سداد المستحقات عليها بالروبل بدعوى مخالفة الأمر المتفق عليه.
من المفيد التذكير بأن استخدام "سلاح النقد" يعود الى زمن إعلان الدولار في اتفاقات "بريتون وودز" كعملة دفع وتسوية عالمية، وترسخ هذا الدور بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وإنشاء منظمة التجارة العالمية في بداية عام 1995 بهدف تعزيز فرص تبادل السلع والخدمات وانتقال الأفراد بين الأمم. واجتمعت في سبتمبر/أيلول من العام نفسه نخبة من قادة العالم في فندق "فيرمونت" في مدينة سان فرانسسكو يتقدمهم الرئيس جورج بوش ورئيسة الوزراء الراحلة مارغريت تاتشر والرئيس الراحل ميخائيل غورباتشيف إلى اقتصاديين لامعين في مقدمهم ميلتون فريدمان وديبلوماسيين أبرزهم زبيغنيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق، الذي يعود إليه الفضل في إطلاق تعبير العولمة في هذا الاجتماع كمصطلح سيصبغ لاحقا سياسات وشعارات السنوات التالية، وقد استقاه من كتاب "مجرة غوتنبرغ" للفيلسوف الكندي مارشال ماكلوهان.
التحدي الأساسي أمام العولمة كان استياء العديد من الدول في مقدمها روسيا والصين من الامتياز النقدي الذي انفردت به الولايات المتحدة الاميركية عن الآخرين بطباعة الدولار لتحصل على ما تشاء من سلع وخدمات خارجية. وأيضا تحويلها الدولار من عملة "أمان" الى عملة "هيمنة" بفرضه في تسعير سلع عالمية كالنفط ومشتقاته، ومن يتمرد على هذا القرار يقتل. وهذا ما حصل مع صدام حسين بعد قراره بيع نفط بلاده باليورو، ومع القذافي الذي دعا الى اعتماد الدينار الذهبي مكان الدولار في تصدير نفط بلاده. أيضا تم استخدام الدولار كسلاح في النزاعات مع الخصوم بتجميد حسابات الآخيرين المفتوحة لدى المصارف الأميركية بما فيها تجميد حسابات مصارفها المركزية.
وفي آخر فصول استخدام "سلاح النقد" تم فصل روسيا بسبب غزوها أوكرانيا عن نظام خدمات الـ"سويفت" كما قررت شركتا "فيزا" و"ماستركارد" تعليق العمل مع روسيا، مما دفع موسكو الى الإستعانة بنظام خدمات "يونيون باي" الصيني المعترف به عالميا مع اللجوء الى طرق التفاف أخرى أكثر تكلفة للإفلات من العقوبات.
الضغوط الأميركية السابقة إلى أخرى جديدة، التي مورست وتمارس على الصين، خيمت على اجتماع القمة الرابعة عشرة لتجمع دول"بريكس" في يونيو/حزيران الماضي، وضغطت لاتخاذ قرارات مناوئة لها أهمها العمل على تحرير النظام المالي الدولي من الدولار، والخطوة الأولى لذلك البدء بالإعداد لإصدار عملة احتياط على أساس من عملات دول الـ"بريكس"، وأوضح بوتين أن الأمر جاء نتيجة المنحى الغربي بطباعة أموال غير مغطاة وضخها بشكل عشوائي مما يعزز الديون والتضخم العالمي.
وأشار الى أن العمل جار أيضا على التحرر من نظام الـ"سويفت" وقد عرضت روسيا على المجتمعين استعمال نظامها البديل (The Financial Messaging System of the Bank of Russia – SPFS).
حاليا، هناك إصرار على ضرورة السعي لإدخال تعديلات على عمل منظمة التجارة العالمية بهدف منع وحتى معاقبة الدول التي تعتمد تقييدات على التجارة لغايات سياسية، كما على ضرورة توسعة الـ"بريكس" لضم دول شاركت في اجتماعاتها عام 2017، هي مصر والمكسيك وغينيا وطاجكستان، وأخرى لم تشارك مثل تركيا والسعودية، في عالم بات متعدد الأقطاب نقديا، وهو أمر كان بدأ يتشكل منذ إصدار عملة الـ"يورو"، وسيتظهر أكثر في حال نجاح دول الـ"بريكس" في إصدار عملة احتياط خاصة بها.
في غضون ذلك ستبقى النقد والغذاء والطاقة ثلاثة أسلحة لإخضاع الدول والشعوب.