القاهرة: لم أكن أعرفها حين رأيتها لأول مرة تبكي بحرقة وتفضي بما في داخلها أمامي دون خجل أو خوف من غريبة تراها لأول مرة.ورغم انشغالنا وقلّة لقاءاتنا، ظللت أتابع مسيرتها، فهي نموذج ملهم لمن أراد أن يعرف أن النجاح ليس سهلا والطرق ليست معبدة.
من محافظة الدقهلية في مصر إلى روسيا، ومن دفء المنصورة إلى ثلوج موسكو، تخرجت ضحى عاصي صغيرة في السادسة عشرة، لتدرس الطب ثم تعود بعد حصولها على البكالوريوس إلى مصر لتدرس الإرشاد السياحي وتعمل سنوات طويلة مرشدة سياحية ومترجمة تجيد ثلاث لغات غير العربية قبل أن تتخذ قرارا بالتوقف عن العمل والتفرغ للكتابة. كانت تلك انطلاقة جديدة في حياتها أعقبتها بتجربة هي الأصعب، فقد صارت نائبة في البرلمان المصري، وغدت صوت الثقافة في مجلس النواب.
حصلت ضحى أيضا على دبلوم في النقد الفني وآخر في الفنون الشعبية وثالث في التراث العربي المسيحي من كلية اللاهوت الإنجيلية.
التعليم والمكتبة
من الطب للإرشاد السياحي لمجلس النواب كانت رحلة ضحى عاصي الكاتبة الروائية المتمكنة، التي وضعت اسمها في مصاف الروائيين المميزين برواياتها الثلاث: 104 القاهرة، وغيوم فرنسية، وصباح 19 أغسطس.
ضحكت ضحى تلك الضحكة التي تعني أن الأمر راقها وأنها ستفتح الصندوق وتروي حين سألتها عن التعليم الحاضر بقوة في حياتها: "التعليم في بيتنا كان مهما جدا على مستويين مختلفين، فوالدي كان متعلما تعليما جيدا وهو أحد أهم مفكري وقته، وكانت مكتبته مليئة بصنوف الكتب المختلفة السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، والأدبية بكل أشكالها، والدينية بما تحوي من فقه وشريعة وتفاسير، وقد كبرت في ظلّ هذه المكتبة.
لم تدخل والدتي الجامعة وتزوجت واهتمت بأطفالها فكان هاجسها الكبير هو أنها لم تكمل تعليمها. كانت تزرع الفكرة في داخلنا دون قصد حتى إننا تشربناها صغارا، كما أنها عملت على تثقيف نفسها لدرجة أنني حين أجلس إلى بعض السيدات صاحبات الشهادات العلياوالدرجات العلمية المميزة لا أجد لديهن الوعي الذي لدى أمي.
كان لابد لي من التشبث بفكرة التعليم، لأسألها عن سرّ حرصها على دراسة التراث العربي المسيحي في كلية اللاهوت الإنجيلية؟
تجيب: "هذا الأمر أيضا له شقان، فلقد درست في مدارس راهبات كاثوليكية، ووالدي كان الشيخ مصطفى عاصي وكان مستنيرا زرع في داخلنا منذ البداية أنه لا تمييز بين مسلم ومسيحي، بل هناك مصري بغض النظر عن الدين. كانت تلك بداية فكرة المواطنة عندي. لم أفهم في صغري هذا الخيار فكيف لإمام مسجد وخطيب ودارس للشريعة والقانون أن يعلم أطفاله في مدارس للراهبات، خاصة أنه في فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي بدأ ما يسمى بالمدّ الديني، وراح كل فريق يستقطب أتباعه، إلا أنه فعل ذلك دون أخذ ذلك الاستقطاب في الحسبان.
علمني موقفه هذا معنى المواطنة الحقيقي، ومن خلال عملي في المجال العام صرت أُدعى إلى محاضرات كثيرة عن المواطنة، ومن ضمن هذه الندوات كانت ندوة عن التراث العربي المسيحي فاكتشفت أنها عرض تقديمي لدبلوم فتحمست لدراسة هذا الدبلوم ليساعدني في العمل العام ويقربني من الديانة المسيحية أكثر، بحيث يساعدني ذلك في الحديث عنها عن دراية ومعرفة حقيقية، وحين درست اكتشفت أن معظم من يتحدثون عن المواطنة بعيدون جدا عنها رغم إيمانهم بالفكرة لكنهم لم يتعمقوا في ديانة الآخر، ولم يعرفوا ما هي النقاط التي يمكن أن تثير الشقاق أو تلك التي تستطيع توحيدنا.