حروب غريبة على أرض محمود درويشhttps://www.majalla.com/node/287901/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%AD%D8%B1%D9%88%D8%A8-%D8%BA%D8%B1%D9%8A%D8%A8%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A3%D8%B1%D8%B6-%D9%85%D8%AD%D9%85%D9%88%D8%AF-%D8%AF%D8%B1%D9%88%D9%8A%D8%B4
ما جرى من حروب غريبة على أرض محمود درويش لم يكن ينتظر وفاته المفجعة يوم 9 أغسطس/ آب 2008 بل سبقها بكثير. كان صعبا على من خبروا النضال الواحد، واللغة الواحدة والخطاب الواحد، فهم تلك الرحابة التي كان ينادي بها، وكذلك توصيفه طبيعة معركة الدفاع عن الحق الفلسطيني وكيف يجب أن تخاض.
صراع السرديات
رأى درويش مبكرا أن العالم يخوض حرب السرديات الثقافية، وأن إسرائيل ليست سوى سردية استطاعت الدفاع عن نفسها على الرغم من كل ما تنطوي عليه من مغالطات واستيهامات، واستنتج أن سبب نجاحها في فرض ما تدّعيه يعود إلى غياب الصوت الآخر الموازي الذي يدافع عن سردية مغايرة.
الشكل الذي تخاض به هذه المعركة وأداتها الأساسية هما اللغة والجمالية. ولطالما دافع الشاعر الراحل عن ضرورة خوض الحرب الجمالية لامتلاك المكان. فالخطر الأكبر في رأيه ليس في قدرات إسرائيل العسكرية والاقتصادية، بل في أنها استطاعت أن تخرج شعراء وفنانين قادرين على رواية المكان على نحو يمكّنهم من شرعنة امتلاكهم له وسطوتهم عليه.
الخطر الأكبر في رأي درويش ليس في قدرات إسرائيل العسكرية والاقتصادية، بل في أنها استطاعت أن تخرج شعراء وفنانين قادرين على رواية المكان على نحو يمكّنهم من شرعنة امتلاكهم له وسطوتهم عليه
"محمود خيبتنا الأخيرة"
بدا منطق درويش للكثيرين مغالطة، ووصل الأمر إلى حدود اتهامه بالخيانة من أقرب الناس إليه.
قصة خلافه الشهير مع رسام الكاريكاتور الفلسطيني ناجي العلي تعطي مثلا على عدم الرغبة في استقبال مشروعه من داخل الوسط الفلسطيني نفسه، الذي انتشر وتعمم على المحيط العربي، بينما كان المجتمع السياسي والأمني والثقافي الإسرائيلي ينظر إليه نظرة مختلفة، ترصد خطورة ما ينادي به، وما شرع في بثه في شعره بلغة حرص دائما على أن تخرج شفافة ونقية، ومشحونة بدلالات صلبة وعميقة.
وكان ناجي العلي قد نشر بتاريخ 16 /6/1987 رسما كاريكاتوريا يهاجم فيه محمود درويش بضراوة، رفضا لموافقته على عقد لقاء بين كتاب فلسطينيين وإسرائيليين، ولعب العلي في هذا الكاريكاتور على جملة درويش "بيروت خيمتنا الأخيرة" ليحولها إلى محمود خيبتنا الأخيرة، كما اعتبر أنه صار جزءا من سلطة قامعة كونه أصبح عضوا في منظمة التحرير الفلسطينية، فخاطبه قائلا إن فعلته هذه تنسجم مع هذه السلطة، وإنها جاءت بعد ما صار عضو "لجنة تنفيسية".
هذه الضراوة التي صدرت عن أبرز رسامي الكاريكاتور الفلسطينيين في حق محمود درويش تكشف كيف كان ما ينادي به ممتنعا على القراءة.
ألقي على شعره حجاب سميك حال دون تلقيه وفق ما كان يريد ويتمنى، وحوصر في مجالات الصراخ والضجيج والسذاجة المبكرة التي غادرها وأنكرها واعتبر مرارا أنها تمثل مرحلة بدائية لا يصح البناء عليها في قراءة مشروعه والحكم عليه، وكذلك حُشر في منطقة الرمز الثقافي النضالي الذي ينبغي تحميله ما لا يحتمله.
يخبر درويش قصة الخلاف مع ناجي العلي في مقال بعنوان "كان يرسم وكنت أكتب" نشره في العدد رقم 177 من مجلة "اليوم السابع" الصادرة في أيلول/ سبتمبر 1987 بعد فترة وجيزة من وفاة ناجي العلي في 29 أغسطس/ آب 1987 متأثرا بجراحه بعد محاولة اغتياله التي جرت في لندن في 22 يوليو/ تموز من العام نفسه.
قال درويش: "عندما استبدل عبارتي بيروت خيمتنا الأخيرة بعبارته اللاذعة "محمود خيبتنا الأخيرة" كلّمته معاتباً، فقال لى "لقد فعلت ذلك لأنى أحبك، ولأني حريص عليك من مغبة ما أنت مقدم عليه، ماذا جرى، هل تحاور اليهود؟ اخرج مما أنت فيه لأرسمك على الجدران!". لم يكن سهلا عليّ أن أشرح له بأن تدخلَنا في أزمة الوعي الإسرائيلى ليس تخليا عن شيء مقدس، وبأن استعدادنا لمحاورة الكتاب الإسرائيليين الذين يعترفون بحقنا فى إنشاء دولتنا الوطنية المقدسة، على ترابنا الوطني، ليس تنازلا منا، بل هو محاولة اختراق لجبهة الأعداء".
وأوضح في المقال نفسه أن العلي كان يصر على موقف ثابت يرتبط بقدسية النضال المسلح حيث كان يقول: "لا أفهم هذه المناورات، ولا أفهم هذه السياسة، طريق فلسطين واحدٌ وحيدٌ هو البندقية".
كارول سماحة وانتحال درويش
أصدرت المغنية اللبنانية كارول سماحة فيديو كليب لأغنيتها "ستنتهي الحرب" المنسوبة كلماتها زورا إلى شعر درويش، لم تسئ إليه كما يتبادر إلى الأذهان، خصوصاً بعد حصول الفيديو على أكثر من مليوني مشاهدة على موقع يوتيوب بعد فترة وجيزة من طرحه.ذلك أن فعل الإساءة يتطلب توفر شرطَي المعرفة والقصدية، ولا يوجد ما يثبت توفرهما عند المغنية ولا عند مُخرج العمل باسل ناصر وملحنه الفلسطيني تيسير حداد.
يراكم "اقتباس" سماحة لدرويش منطق تلقي شعره وتكثفه وتنقله إلى بعد آخر أشد خطورة، لأنها خرجت إلى النور مدججة بسلطات الصورة المشغولة بأحدث التقنيات والمفصولة في الوقت نفسه عن الموضوع.
اجتمع في عملها نفيان، الأول يتجلى في أنها غنت النسخة المختلقة من درويش التي ولدت في وسائل التواصل الاجتماعي وليس في مختبرات التجريب والنحت في اللغة والغوص في جمالياتها. وثانيهما أن الفيديو كليب قدم مجموعة من المشاهد المتشظية المتنافرة التي لا يجمع بينها رابط في إطار يتماهى مع خطاب الثقافة الإسرائيلية عن الثقافة الفلسطينية خصوصا والعربية عموما، والتي تؤكد عجزها عن إنشاء خطاب متماسك. تالياً فإن الخطاب الإسرائيلي يستطيع تغطية فراغ المكان وصفيا وجماليا وشعريا وسياسيا وفي المجالات كافة، لأن تماسكه يعطيه كل هذه الشرعيات مجتمعة.
ألقي على شعر درويش حجاب سميك حال دون تلقيه وفق ما كان يريد ويتمنى، وحوصر في مجالات الصراخ والضجيج والسذاجة المبكرة التي غادرها وأنكرها واعتبر مرارا أنها تمثل مرحلة بدائية لا يصح البناء عليها في قراءة مشروعه والحكم عليه
الشخصية التي قدمتها كارول بنفسها، بأزيائها وماكياجها، تحيل على أبطال المسلسلات مثل "لاغرثا" في مسلسل "الفايكينغ" أو المقاتلة "زينا" في مسلسل "هرقل" أو إلى "الووندروومن" في الفيلم الذي قامت ببطولته الممثلة الإسرائيلية ذات الأداء الضعيف جال غادوت.
في كل الأحوال لم تنجح في أن تقنعنا بالقرابة معنا ومع موضوعها بأي شكل من الأشكال.
في تقديمها للمشروع الذي كان هذا الفيديو كليب الغنائي أول أغنية من ألبوم سيضم 12 قصيدة، أكدّت أنه ولد من "من قلب وجعنا وتوقنا للحرية والأمان في مواجهة الظلم الذي نعيشه في بلادنا العربية"، وقد أرفقت هذا التقديم بشعار "حتى "تبقى هويتنا واحدة ووحدتنا عربية".
اختار صنّاع الفيديو كليب، خلافا لشعارهم، معاداة العين العربية، وتقديم مشهديات مستنسخة بشكل رديء من خطاب السينما الغربية بشكل بدائي وساذج لا يقترب إلى ما وصلت إليه من ألعاب الترميز وجودة الربط بين الصناعة البصرية والمغازي والمفاهيم.
نعثر في الفيديو كليب على إحالات مباشرة وتقريرية، تريد أن تقدم نفسها على أنها عميقة ورمزية، لكنها لا تفشل وحسب في ذلك، بل تقيم بيننا وبين تمثل الموضوع حجابا سميكا وتأخذنا إلى مكان أقرب إلى مراكز بيع البضائع المقلدة، حيث يمكن لأي شخص ان يشتري النسخة الرديئة من العلامات التجارية الفاخرة، محاولا إقناع نفسه أنه قد صار في مجال آخر وغير واقعه، في حين أن ما يشتريه فعلا ليس سوى الوهم.
هذا بالتحديد ما تحاول سماحة بيعه في هذا الفيديو كليب وكأننا أمام متحف المسرات الزائفة الذي يضم قدرا زائفا من كل شيء.
يمكن لمحبي أفلام الرعب مثلا الحصول على مبتغاهم في مشهد عجوز تمشي وهي ذاهلة، ولمحبي الرومانسية توجد لفتات في مشهد انتظار وأرجوحة، ولمحبي قضية التعددية العرقية يمكن أن نحضر الأفارقة من دون حاجة إلى السياق ونضعهم في إطار مخجل ومعيب وخال من الدلالات. محبو البطلات يمكنهم الالتفات إلى شخصية سماحة. كل ذلك يغلّف بغناء يحاول أن يكون أوبراليا ونشيديا وحماسيا ورومانسيا ودينيا وصوفيا في الآن نفسه. نحن هنا نرضي كل الأذواق.
المستهلك والقارئ
ذلك الخطاب يتجه إلى مستهلكي محمود درويش وليس إلى قرائه.
المستهلك يريد شاعرا آيلا للاستعمال، قيمته تنبع من تلك الوظيفة ولا تغادرها. يمكن نسب البيان التأسيسي لمثل هذا التناول إلى اليسار العربي بشكل خاص الذي وظّف شعر درويش في إطار نضالي مباشر وحربي بشكل عام منفصل عن طبيعة مشروعه، وسجن الشاعر فيه، ما سمح بنشوء شبكات استهلاكية واسعة لم تكن القصيدة المختلقة التي غنتها سماحة سوى أحد تجلياتها. محمود درويش المعَدّ للاستهلاك يصلح لاستنساخات تشويهية لا تعد ولا تحصى، لكي يكون آيلا للاستعمال الرومانسي والعاطفي والشخصي، وربما نشهد لاحقا ظهور صيغة "اللايف كوتش" من محمود درويش.
للقارئ متطلبات أخرى لم تتحقق في تلقي درويش إلا نادرا. فالقارئ يطلب من الشاعر أن يخاطبه جماليا وفكريا، ويحاكمه ويتعامل معه من داخل اللغة، أي من قلب مشروعه فيكون شريكا له في الإبداع وفي تطوير رؤاه.
لم يحظ محمود بشبكة قراء واسعة بقدر ما كانت لديه مجموعات وأحزاب من المستهلكين، وهؤلاء انفضّوا عنه حين حرص على إجبارهم على أن يكونوا قراء.
كارول سماحة شاءت أن تخاطب سوق استهلاك محمود درويش الذي لا يزال السوق الأوسع.
القصيدة بصيغتها التي قدمتها، منشورة على يوتيوب ووسائل التواصل الاجتماعي منذ سنوات مقرونة بتعليقات تؤكد انتحالها وتوثقه. من هنا فإن رد مؤسسة محمود درويش الذي كتب بلغة ركيكة مؤكدا هذه الواقعة ومطالبا الفنانة بحذف الأغنية والرجوع اليها بوصفها صاحبة الحقوق ومالكة الترخيص باستغلال قصائده، يظهر حجم التكاسل في العناية بإرث الشاعر الذي ساهم في جعله مشاعا استهلاكيا يصلح لشتى أنواع التوظيفات.
الاستخفاف نفسه يتكرر مع بيان محامي الفنانة جان قيقانو الذي يقول "إن كلمات أغنية "ستنتهي الحرب" نسبت في أكثر من مصدر ومرجع إلى الشاعر محمود درويش كما هو ثابت على المواقع الإلكترونية ومنذ زمن بعيد من غير أن يعترض أحد عليها".
مثل هذا البيان يعطي دروسا في البحث عن الأشياء في مصادرها. فبالنسبة إلى محامي سماحة فإن مكان القصائد الثابت للشاعر لا يقع في دواوينه وأعماله المنشورة والموثّقة بل في الإنترنت. هل يمكن العثور على فكرة تنسجم مع فكرة المكان الفارغ الفاقد للمرجعيات والأصول أخطر من هذه الفكرة؟
تعرية الشاعر من كلامه توازي تسفيه مشروعه واقتلاعه من أرضه.
يراكم "اقتباس" سماحة لدرويش منطق تلقي شعره وتكثفه وتنقله إلى بعد آخر أشد خطورة، لأنها خرجت إلى النور مدججة بسلطات الصورة المشغولة بأحدث التقنيات والمفصولة في الوقت نفسه عن الموضوع
حرب محمود دويش
حرب محمود درويش الفعلية كانت مع الخطاب الثقافي الإسرائيلي عموما والشعري خصوصا الذي أنتج قصائد في حب المكان والانتماء عليه والتعبير عن خصوصيته. استطاعت تلك القصائد العبور إلى العالم في اللحظة التي كان فيها الخطاب السياسي الإسرائيلي والأمني يتهاوى، وساهمت في إنتاج صورة مختلفة برز فيها الإسرائيلي منافحا عن المكان ومنتميا اليه.
محمود كان يرى أن قصائد الشاعر الإسرائيلي يهودا عميحاي الذي يعد الشاعر القومي الإسرائيلي الأبرز، تتجاوز في خطرها كلّ الآلة العسكرية الإسرائيلية لأنها تملّكه المكان من بوابة سطوة اللغة ومجالها وتجعله يبدو صاحبه ومنتجه الأصلي.
أخذ على عاتقه محاربة عملية السطو الشعري على المكان وتاريخه وذاكرته، واشتغل على اختراق خطاب الشعراء الإسرائيليين حوله وخصوصا خطاب يهودا عميحاي الذي كان معروفا عالميا والذي سبق أن حظي بأرفع الجوائز الإسرائيلية. عميحاي كان يصر على سياسية كل التعبيرات، وفي مقابلة معه لصالح مجلة "باريس ريفيو" أجراها معه الصحافي لورنس جوزيف عام 1992 يقول: "القصائد الحقيقية تتعامل مع استجابة الإنسان للواقع والتاريخ في طور التكوين. حتى لو كتب شاعر عن الجلوس في منزل زجاجي وشرب الشاي فهذا يعكس السياسة".
في تلك الفترة كان درويش قد دخل في مرحلة جديدة في الكتابة الشعرية تنحو نحو التقطير اللغوي والجمالي وتعميق الإحالات التاريخية والأسطورية. بدأت تلك المرحلة مع ديوان "أحد عشر كوكبا" الصادر عام 1992 وتابعت نضوجها مع ديوان "لماذا تركت الحصان وحيدا" حتى وصلت إلى مرحلة قصوى من الاكتمال في ديوان "جدارية" الصادر عام 2000.
وإذا كان يهودا عميحاي يتحدث عن كون كل شيء في القصيدة الحقيقية يعكس السياسة، فإن محمود في "الجدارية" سيّس الموت نفسه وجعله شاهدا لحقّه في النطق باسم المكان حين ختم تلك القصيدة الملحمية بمقطع قال فيه:
هذا البحرُ لي
هذا الهواءُ الرَّطْبُ لي
واسمي-
وإن أخطأتُ لفظ اسمي على التابوت-
لي.
أَما أَنا - وقد امتلأتُ
بكُلِّ أَسباب الرحيل-
فلستُ لي.
أَنا لَستُ لي
أَنا لَستُ لي
امتلك درويش المكان والاسم بعدما خاض كل معارك اللغة مع الأعداء، وخلق سردية احتلت حيزا موازيا للسرديات الإسرائيلية ونجحت في مقارعتها وتفكيكها بشعر صاف أدخله في عداد شعراء العالم الكبار.
كان يعرف أن من المستحيل قراءة الشعر بمعزل عن القضية التي يدافع عنها، وفهم تاليا أن تماسك القصيدة هو المدخل الوحيد لخلق خطاب متماسك حول المكان في العالم الذي يستقبل لغة الفن.
بعد ذلك كله أعلن أنه لا يملك نفسه بل وهبها لنا في وصية منحوتة في قلب قصائده تقول خذوني واكتبوا بي قصتكم وقصتي، ولا تتركوا الأعداء يخبرون العالم عني وعنكم، فالعالم ساحة حرب بين القصص، ومن يخسر قصته يخسر مكانه ووجوده.