من النادر جدا أن يكون لتغريدة واحدة عواقب كبيرة، إلا أن التغريدة التي نشرها غاري لينيكر كان لها عواقبها. نشر مذيع الرياضة في قناة "بي بي سي" ولاعب كرة القدم الإنكليزي الشهير السابق تغريدة الأسبوع الماضي، انتقد فيها سياسة الهجرة الجديدة التي تتبعها الحكومة ووصفها بأنها قاسية بشكل لا يمكن وصفه وبأنها تستخدم لغة لا تختلف عن تلك التي كانت تستخدم في ألمانيا في الثلاثينيات. وأثار هذا الأمر غضب الحكومة الشديد، ما دفع العديد من المحافظين لمهاجمة لينيكر ودعوة "بي بي سي" للتحرك ضده، ولكن قيام المؤسسة بالتجاوب مع تلك الدعوات أدى لإثارة الفوضى.
تنحّى لينيكر مؤقتا عن دوره الأساسي في تقديم برنامج كرة القدم الشهير "مباراة اليوم"، الذي تبثه هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، إلى أن يتم التوصل إلى اتفاق بشأن استخدامه لوسائل التواصل الاجتماعي. المفروض أن "بي بي سي" الممولة من الحكومة البريطانية تلتزم بالحياد، كما أنها تضع إرشادات صارمة تمنع الصحافيين العاملين فيها من التعبير عن آرائهم السياسية على وسائل التواصل الاجتماعي. إلا أن لينيكر أصر على أنه ليس صحافيا بل مقدم برامج رياضية مستقلا ينشر تغريداته بصفته الشخصية، وهو بالتالي لم ينتهك تلك الإرشادات. والحقيقة أن تلك كانت على الدوام منطقة رمادية، إذ أن العديد من مذيعي "بي بي سي" قد قاموا في الماضي بدعم السياسيات الحكومية على حساباتهم الشخصية على تويتر دون مواجهة استهجان مماثل.
واتُّهِمت "بي بي سي" بالخضوع لضغوط الحكومة وتحولت تصرفات لينيكر فجأة لمسألة تتعلق بحرية التعبير وحقيقة "حيادية" "بي بي سي". وكان زملاء لينيكر أول من وضع حدا لهذا الأمر، رافضين مواصلة تقديم برامجهم بدونه، مما أدى إلى إضراب جماعي. فتلاشت تغطية "بي بي سي" لمباريات كرة القدم في عطلة نهاية الأسبوع، حيث تم بث المباريات بدون تعليق أو تحليل أو مقابلات بسبب رفض العديد من لاعبي كرة القدم تقديمها تضامنا مع لينيكر.
وكان هذا الأمر هدفا ضخما خاصا بالنسبة لحكومة ريشي سوناك. إذ على الرغم من كون سياسة الهجرة الجديدة التي عارضها لينيكر مثيرة للجدل، إلا أنها حظت ببعض الدعم العام. فقد وجد استطلاع للرأي أجراه موقع "يوغوف" (YouGov) أن 50% من الناخبين البريطانيين الذين شملهم الاستطلاع يؤيدون سياسة منع أي مهاجر يتم إلقاء القبض عليه أثناء عبوره القناة إلى المملكة المتحدة من العودة إلى البلاد، وهو اقتراح يرى المعارضون فيه انتهاكا للقانون الدولي.
وكان ذلك الأمر جزءا من مجهود واسع قام به سوناك لاستعادة شعبية حزبه المحافظ الحاكم بعد عام من الجدل الذي أدى إلى انخفاضها إلى 20 % في استطلاعات الرأي. وإلى جانب سياسة الهجرة، فقد وافق سوناك مؤخرا على صفقة جديدة مع الاتحاد الأوروبي بشأن أيرلندا الشمالية وتحسين العلاقات مع فرنسا (مما يؤثر أيضا على سياسة الهجرة)، كما أعلن عن إنفاق مبالغ إضافية على الأمور العسكرية.
ومع ذلك، لم تكن هناك تغطية تذكر في نهاية هذا الأسبوع بخصوص القمة مع فرنسا أو أجندة الدفاع الجديدة، فقد كان الحديث كله عن لينيكر. ولم يلق هذا الأمر ظلاله على سياسات سوناك الجديدة فحسب، بل أثر أيضا على شعبية حكومته، وهكذا، تلقّى سوناك ضربة من الجانبين. وقد وصف مؤيدو حرية التعبير الحكومة بأنها شديدة القسوة للضغط على "بي بي سي"، وفي الوقت ذاته، غضبت جماهير الرياضة، الصامتة عادة، من غياب تغطية كرة القدم.
كان من الممكن تجنب مثل هذه النتائج السلبية بالكامل لو أن الحكومة تجاهلت تغريدة لينيكر الأولى كما تجاهلت العديد من انتقاداته في السابق. إلا أن العديد من الوزراء والمحافظين البارزين، بما في ذلك وزيرة الداخلية سويلا برافرمان، أبقوا النار مستعرة وظل الخبر يتصدر العناوين الرئيسية
وفي استطلاع آخر أجراه موقع "يوغوف"، اعتبر 53% من المشاركين أن "بي بي سي" أخطأت في تعليقها لخدمات لينيكر، بينما وافق 27% منهم على القرار. وحافظ هذا الموضوع على اهتمام الإعلام بقضية سياسة الهجرة الجديدة وزاد من التدقيق عليها. وأثار المؤيدون لها، مثل وزيرة الداخلية السابقة بريتي باتيل، أسئلة تتعلق بشأن البنود الخاصة بالأطفال في هذه السياسة الجديدة.
لقد كان من الممكن تجنب مثل هذه النتائج السلبية بالكامل لو أن الحكومة تجاهلت تغريدة لينيكر الأولى كما تجاهلت العديد من انتقاداته في السابق. إلا أن العديد من الوزراء والمحافظين البارزين، بما في ذلك وزيرة الداخلية سويلا برافرمان، أبقوا النار مستعرة وظل الخبر يتصدر العناوين الرئيسية، ودعوا "بي بي سي" للقيام بتصرف ما، كما ضغطوا، بحسب بعض التقارير، على المدير العام لهيئة الإذاعة البريطانية.
وقد يكون هذا الأمر جزءا من استراتيجية الحرب الثقافية الانتخابية الأوسع للمحافظين. إذ، وتكرارا للانقسام المشابه الذي حصل في الولايات المتحدة الأميركية بين مؤيدي ومعارضي دونالد ترامب، يحاول جزء من حزب المحافظين تصوير خصومهم على أنهم نخب ليبرالية بعيدة بسبب سياساتهم الضعيفة فيما يخصّ شؤون الهجرة وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ومن غير الواضح ما إذا كانت هذه الاستراتيجية ستنجح في الانتخابات المقبلة أم لا، إلا أن التركيز على لينيكر واعتباره هدفا لهم كان خطأ تسبب بنتائج عكسية. كما أن صمت المحافظين الذين طالبوا بالتعامل مع لينيكر بعد قيام "بي بي سي" بإيقاف المذيع وإثارة الأزمة لم يكن من قبيل المصادفة. فعند استجوابهم، ترك سوناك ووزراء آخرون أمر التعامل مع لينيكر لـل"بي بي سي"، وكأن الحكومة لم تلعب أي دور في هذه القضية.
ويأمل سوناك أن تنتهي هذه القضية باتفاق لينيكر و"بي بي سي" على تسوية خلافاتهما وعودة المذيع إلى عمله بعد الاتفاق على إرشادات جديدة لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن هذا الأمر لا يبدو مرجحا، إذ وعلى الرغم من أن أنصار سوناك المتشددين سيدعمونه بدون شك، فإن هجوم حزبه على لينيكر ربما قد يكون كلفه الشعبية التي كان يعمل من أجلها.
وبالطبع، فإن الضرر بالنسبة لـ "بي بي سي" أكبر بكثير. فقد أثارت هذه القضية دعوات لاستقالة كل من المدير العام ورئيس مجلس إدارة المؤسسة، وتم اعتبار هذه المؤسسة المحايدة تابعة لأجندة الحكومة. ويأمل سوناك أن يتم التخلص من آثار هذه الأزمة خلال أسابيع قليلة، إلا أنها قد تؤثر على صورة "بي بي سي" بين جمهورها وموظفيها لأعوام. ومن الممكن أن تكون الحكومة قد حققت هدفها الخاص، إلا أن "بي بي سي" قد واجهت ضربة قاسية.