كان اتخاذ القرارات بناء على منظور استراتيجي، الميزةَ الرئيسة للصين. كان هذا فعالاً وحاسماً بشكل خاص في عقود التنمية المطردة على الرغم من تعقيدات المشهد الدولي. إذا وضعنا تفكير الصين ورؤيتها الاستراتيجية في السياق الصيني - العربي الذي أبرزته زيارة الرئيس تشي جينبينغ على رأس وفد كبير للسعودية في نهاية عام 2022، لأمكننا أن نرى أن الموقع الاستراتيجي للمملكة في العالم العربي لدى الصين ارتفع إلى مستوى جديد. هدفت الزيارة إلى حضور قمة ثنائية والقمة الصينية - العربية والقمة الصينية - الخليجية، ومثّلت أكبر وأعلى وفد صيني يزور العالم العربي منذ عام 1949.
جاءت القمّتان وزيارة الدولة للرياض، في وقت مثالي تتصاعد فيه العلاقة بين الصين والدول العربية، بينما يتراجع الوجود الغربي وتأثيره. وستسعى الصين والسعودية، على وجه الخصوص، لإظهار كيف يمكن للاستراتيجيات القائمة على البراغماتية أن تكون حجر الزاوية للاستقلال الفعال والسيادة.
استفادت الصين من عقود الإصلاح والانفتاح مع سياسة خارجية مستقلة ومسالمة وفق مبادئ التعايش السلمي. محليا، عزّزت التنمية الاقتصادية القوية والمطردة في الصين تشكيلا قويا للاستقرار الاجتماعي والأمن، فيما تمكّنت الصين على الصعيد الخارجي من الحفاظ على دور لها في قوات حفظ السلام في إطار الأمم المتحدة، وبالتالي ساهمت في منع الحروب أو صراعات الاستنزاف. ذلك لأن الصين واعية تماما أن إعطاء الأولوية للتنمية الخاصة بها، مع وضع الأمن كأساس، هو مفتاح بناء الروافع الاستراتيجية.
ترى الصين أن السعودية تقف الآن عند مفترق طرق، حيث تتمتع الدولة بوضع متميز لتعزيز استقلالها واستقلاليتها في صنع السياسات المحلية والخارجية. كانت المملكة، ومنذ عام 1932، تضع الولايات المتحدة أو الغرب بشكل عام في صدارة علاقاتها الخارجية. لكننا حين نتأمل الماضي، نرى أن إطار النفط مقابل الأمن كان نهج الولايات المتحدة لتعزيز مصلحتها في المنطقة على حساب أمن الدول الإقليمية وفرص التنمية. لكن السعودية ترى اليوم كيف أن تركيزها غير المتوازن على الولايات المتحدة أو مجموعة بعينها من الدول، لن يؤدي إلا إلى عدم الفاعلية في صنع السياسات.
نتيجة لذلك، عندما بدأت الولايات المتحدة تلوم المملكة لخفضها إنتاج النفط، حيث قدّم السعوديون مصالحهم الخاصة على مصالح الولايات المتحدة، أدركت المملكة بالفعل أن إعطاء الأولوية لمصالحها التنموية سيكون سياسة أكثر براغماتية وخيارا أكثر فائدة. في هذا الصدد، بات خيار الصين في التنمية الاقتصادية، سواء في أشكال التنمية الصناعية الخاصة بها أو في الشركات التي تذهب إلى الخارج في إطار "مبادرة الحزام والطريق"، مثلا حيا يحتذى.
استطاعت الصين أن تكيّف استراتيجياتها في كل من التنمية المحلية والعلاقات الخارجية على أساس التغيرات في الديناميكيات الإقليمية، وهذا ما يعكس إنشاء إرادة قوية للسيادة والاستقلال. من جانب آخر، تعزز قدرات الصين مستوى السيادة والاستقلال الذي يجب على الدولة أن تبنيه. لا بدّ أن تُظهر هذه القدرات، بشكل خاص، إمكانات الدولة في توفير الأمن والمصالح التنموية لشعبها.
وفي حالة المملكة تمرّ البلاد في مرحلة تحول عميق وإصلاح وانفتاح، لذلك من المتوقع ان تتجه أهدافها نحو الاعتماد على الذات بدرجة كبيرة في مجالي الأمن والتنمية الاقتصادية. وبديهي ألا تتبع السعودية بشكل صارم مسار الصين بسبب تباين الظروف الوطنية الخاصة بكلّ منهما، لكن نتائج القمّتين وزيارة الدولة التي قام بها الوفد الرفيع المستوى، تبيّن أن الإجماع على بناء مجتمعات ذات مصير مشترك بين الجانبين سيربط القوتين الصاعدتين بشكل أعمق على أساس تفاهم مشترك أمتن.