على مدار العام الماضي، بدأت الصين تدريجيا تنفيذ مرحلة جديدة من سياستها الخارجية انتقلت بموجبها من دور المراقب إلى لاعب مؤثر.
في البداية، أعلن الرئيس شي جينبينغ العام الماضي في منتدى بواو الآسيوي المبادرة الاستراتيجية العالمية، ووصفها بأنها "رؤية صينية للأمن المشترك والشامل والتعاوني والمستدام". ومن ثم اغتنم بينغ مؤتمر الحزب الشيوعي في أكتوبر/تشرين الأول الماضي لإعلان سياسة خارجية أكثر حزما.
جاء مؤتمر ميونيخ للأمن بعدئذ في فبراير/شباط الماضي ليكون أصدق تعبير عن هذه السياسة الجديدة عندما اتخذ عضو مجلس الدولة وانغ يي موقفا فيه تحدٍّ واضح للغرب عموما، والولايات المتحدة بشكل خاص.
أشار إلى أن صبر الصين بدأ ينفد من أزمة أوكرانيا، وأنها تمثل أكثر المشاكل تأثيرا على علاقة الغرب ببقية دول العالم. وأعلن عزم بكين على طرح أفكار حول التسوية، وفي الوقت نفسه لم يدحض ادعاءات الولايات المتحدة بأن بلاده ستوفر "أسلحة فتاكة" لروسيا. باختصار، أظهرت بكين أمام الغرب بما لا يدع مجالا للشك، أنها لن تقبل هزيمة روسيا، وفي الوقت نفسه أبلغت موسكو بأنها لن تقبل صراعا مفتوحا في أوكرانيا.
بعد أيام قليلة أصدرت الصين ورقة مفاهيمية حول "مبادرة الأمن العالمي" وأخرى تتحدث عن موقفها "حول الأزمة الأوكرانية". وفي حين لم تأت الأخيرة بجديد، وكانت غالبا أشبه بتكرار لمواقف بكين منذ بداية الأزمة، وربما – كما قال البعض – لا يعدو الأمر كونه مرتبطا بتايوان وليس أوكرانيا، إلا أنها أشارت للعالم إلى جاهزية الصين للتوسط في الأزمة. يكمن بيت القصيد في موعد اتخاذ الصين لهذا القرار. جل ما في الأمر هو أن كيفية الإعلان وتوقيته مرتبطان بالموعد الذي ترى فيه بكين أن التدخل لحلّ الأزمة سيصبّ في مصلحتها.
في حال قررت الصين استغلال أزمة أوكرانيا للإيذان بمرحلة جديدة أكثر حزما في سياستها الخارجية، فإنها في الوقت نفسه قد اختارت الشرق الأوسط لإضفاء مضمون على سياستها الجديدة.
قبل الخوض في التغير الذي طرأ على السياسة الصينية في الشرق الأوسط، يجدر بنا أن نعرج برهة على الأزمة الأوكرانية. نظرا إلى التأثيرات الكبيرة للأزمة على البلدان النامية، ربما تفضل الصين قيادة مجموعة من البلدان النامية يتقدمها أعضاء مجموعة دول مجموعة "البريكس" لطرح مبادرة للتسوية. لكن هذا الأمر سيتطلب تحضيرات هائلة، ووقتا طويلا قد تبرز الحاجة إليه في ظل الترجيحات بعدم استجابة أوكرانيا (بدعم من الولايات المتحدة) أو روسيا للتسوية في هذه المرحلة من الصراع. وربما يتعين أن تدور رحى جولة أخرى من الأعمال العدائية الكبرى قبل اقتناع الطرفين بأن استمرار الحرب لن يعود على مصالحهما بأي نفع.
عندما أشير هنا إلى التسوية، فأنا لا أقصد بالضرورة التسوية السياسية التي تُفضي إلى إنهاء الحرب رسميا. وقد تعكس النتيجة الأكثر احتمالًا الوضع الكوريّ: إنهاء الأعمال العدائية وإبقاء الوضع الميداني على حاله دون اتفاق سلام رسمي، وتأجيل قضية الأرض إلى المستقبل.
بالنسبة إلى الوضع في الشرق الأوسط، نأت بكين في الغالب بنفسها عن معترك سياسات المنطقة لينصب اهتمامها على بناء علاقات اقتصادية مع جميع اللاعبين بمن فيهم الدول العربية وتركيا وإيران وإسرائيل. بدا كأن بكين تنظر بعين الرضا تجاه ترك إدارة أمن المنطقة إلى كل من الولايات المتحدة وروسيا. لكن استمرار الوضع الراهن من عدم الاستقرار في المنطقة سيعود بأثر سلبي على مشروعها الاستراتيجي المتمثل في "مبادرة الحزام والطريق".
كان الباب مفتوحا على مصراعيه لتنتقي الصين وتختار ما شاءت من نزاعات المنطقة للتوسط فيها، فما كان منها إلا أن اختارت بعناية ووفق نظرة إستراتيجية ثاقبة. وقع اختيار الصين على العلاقة بين المملكة العربية السعودية وإيران، ذلك أنها العلاقة الوحيدة التي يمكن أن تقلب المشهد السياسي في المنطقة رأسا على عقب. وعلى الرغم من أن الأمر محفوف بالأخطار، إلا أن الصين ستلتزم كعادتها جانب الحذر، فليس لديها الكثير لتخسره، بينما قد يعود عليها الأمر بمكاسب كبيرة.
في حين تواصلت المحادثات السعودية الإيرانية منذ فترة، إلا أنها لم تُظهر أي بارقة أمل في شأن إحراز تقدم ملحوظ. وخلافا لذلك، ظلت الرياض وطهران على طرفي نقيض حول لبنان وسوريا، والأهم من ذلك: اليمن.