لم يبق في سماء لبنان "نجمة" تضيء عتمات ليله، ولا كلمات تتدارك شحوب نهاراته. لكن "مؤسسة الفكر العربي" في بيروت كرّمت "سفيرة لبنان (الأمس) إلى النجوم" و"جارة القمر" عندما كان القمر مؤنسا، و"شاعرة الصوت" عندما كان شعراء الأمس يُفتتنون بصوتها "الملائكي". أما التكريم فجاء في ذكرى "ميلادها الثامن والثمانين، بإصدار المؤسسة العريبة مجلدا عنوانه "وطن اسمه فيروز".
الأسطورة والتاريخ
وكانت صاحبة الألقاب الأسطورية هذه - أيام كان ذاك "الوطن" الصغير مشعا في محيطه بعدُ - قد أنشدت في واحدة من أغانيها: "أنا وعدي إلك وعد الصوت غنيلك/وخلّي الدني كلها تغنيلك". وختمت تلك الأغنية قائلة: "بنذر صوتي، حياتي وموتي، لمجد لبنان"، الذي قَدّر له تاريخه المرير أن يهوي أخيرا إلى الظلمات.
لكن ليس لبنان فيروز وحده من هوى، بل هوت قبله ومعه بلدان ومدن مجاورة، كانت المغنية - الأسطورة عينها قد أنشدتها: سورية وفلسطين والعراق. دمشق، بغداد، القدس، وبيروت...
نعم كانت فيروز، وربما لا تزال، أسطورة في لبنان. بل أسطورة لبنان في محيطه العربي، ومن المحيط إلى الخليج. لكن التاريخ غالبا ما يفاجئ الأساطير والأيقونات التي لا تعبأ به أو تتلافاه وتنساه، تتعالى عليه، لتعيش خارجه. فإذا به يدهمها ويرميها في الواقع المتلاطم والأليم. وهذه حال المشرق العربي ومدنه اليوم في ذكرى ميلاد فيروز الثامن والثمانين، بعدما كانت بصوتها السحري، وبكلمات الحكايات الشعرية وموسيقى الأخوين رحباني وسواهما الكثيرين، قد وسّعت حدود سحر صوتها وحضوره إلى بلدان المغرب والخليج العربية.
وقوة التاريخ تعاكس الأساطير وصناعتها وإطلاقها في حياة البشر ومجتمعاتهم ومخيّلاتهم التي تهرب من تنكُّب التاريخ وصناعته. أما مجلد فيروز التكريمي فيحاول التأريخ للأسطورة الساحرة التي كانت المغنّية صوتَها في لبنان والعالم العربي، وعاشت أجيال عربية كثيرة مسحورة به في تحولات حياتها وعواطفها ومشاعرها وأشكال تعبيرها، قبل أن تفاجئها وتفاجئ بلدانها قسوة التاريخ.
والحق أن لبنان وفلسطين وسورية كانت ستنقصُ وتكون أقل مما كانت من دون فيروز وصوتها الساحر. وهذا ما يقوله مجلد "مؤسسة الفكر العربي" التكريمي لها في شهاداته التي تربو على الأربعين عنها، بأقلام كتّاب وباحثين وشعراء وأكاديميين من البلدان العربية. فظاهرة فيروز الرحبانية "عابرة للحدود الجغرافية، وقادرة على اختراق سائر الحواجز التي تمنع التواصل وتعطّل الحوار والتفاعل (وهي...) خير من يمثّل وجها من ألمع وأجلى وجوه منظومة المشتركات الثقافية العربية التي (يمكن) إبرازها والبناء عليها في المشروع الهادف إلى تحقيق التكامل العربي المنشود". وهذا حسبما ورد في المقدمة التي وضعتها "مؤسسة الفكر العربي" للمجلّد الذي أشرف عليه الدكتور هنري العويط وحرّره الشاعر أحمد فرحات والدكتورة رفيف رضا صيداوي.