"وطنٌ اسمه فيروز" في مشرق الجماعات والخرائط الممزقةhttps://www.majalla.com/node/287771/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%88%D8%B7%D9%86%D9%8C-%D8%A7%D8%B3%D9%85%D9%87-%D9%81%D9%8A%D8%B1%D9%88%D8%B2-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%85%D8%A7%D8%B9%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%85%D8%B2%D9%82%D8%A9
لم يبق في سماء لبنان "نجمة" تضيء عتمات ليله، ولا كلمات تتدارك شحوب نهاراته. لكن "مؤسسة الفكر العربي" في بيروت كرّمت "سفيرة لبنان (الأمس) إلى النجوم" و"جارة القمر" عندما كان القمر مؤنسا، و"شاعرة الصوت" عندما كان شعراء الأمس يُفتتنون بصوتها "الملائكي". أما التكريم فجاء في ذكرى "ميلادها الثامن والثمانين، بإصدار المؤسسة العريبة مجلدا عنوانه "وطن اسمه فيروز".
الأسطورة والتاريخ
وكانت صاحبة الألقاب الأسطورية هذه - أيام كان ذاك "الوطن" الصغير مشعا في محيطه بعدُ - قد أنشدت في واحدة من أغانيها: "أنا وعدي إلك وعد الصوت غنيلك/وخلّي الدني كلها تغنيلك". وختمت تلك الأغنية قائلة: "بنذر صوتي، حياتي وموتي، لمجد لبنان"، الذي قَدّر له تاريخه المرير أن يهوي أخيرا إلى الظلمات.
لكن ليس لبنان فيروز وحده من هوى، بل هوت قبله ومعه بلدان ومدن مجاورة، كانت المغنية - الأسطورة عينها قد أنشدتها: سورية وفلسطين والعراق. دمشق، بغداد، القدس، وبيروت...
نعم كانت فيروز، وربما لا تزال، أسطورة في لبنان. بل أسطورة لبنان في محيطه العربي، ومن المحيط إلى الخليج. لكن التاريخ غالبا ما يفاجئ الأساطير والأيقونات التي لا تعبأ به أو تتلافاه وتنساه، تتعالى عليه، لتعيش خارجه. فإذا به يدهمها ويرميها في الواقع المتلاطم والأليم. وهذه حال المشرق العربي ومدنه اليوم في ذكرى ميلاد فيروز الثامن والثمانين، بعدما كانت بصوتها السحري، وبكلمات الحكايات الشعرية وموسيقى الأخوين رحباني وسواهما الكثيرين، قد وسّعت حدود سحر صوتها وحضوره إلى بلدان المغرب والخليج العربية.
وقوة التاريخ تعاكس الأساطير وصناعتها وإطلاقها في حياة البشر ومجتمعاتهم ومخيّلاتهم التي تهرب من تنكُّب التاريخ وصناعته. أما مجلد فيروز التكريمي فيحاول التأريخ للأسطورة الساحرة التي كانت المغنّية صوتَها في لبنان والعالم العربي، وعاشت أجيال عربية كثيرة مسحورة به في تحولات حياتها وعواطفها ومشاعرها وأشكال تعبيرها، قبل أن تفاجئها وتفاجئ بلدانها قسوة التاريخ.
والحق أن لبنان وفلسطين وسورية كانت ستنقصُ وتكون أقل مما كانت من دون فيروز وصوتها الساحر. وهذا ما يقوله مجلد "مؤسسة الفكر العربي" التكريمي لها في شهاداته التي تربو على الأربعين عنها، بأقلام كتّاب وباحثين وشعراء وأكاديميين من البلدان العربية. فظاهرة فيروز الرحبانية "عابرة للحدود الجغرافية، وقادرة على اختراق سائر الحواجز التي تمنع التواصل وتعطّل الحوار والتفاعل (وهي...) خير من يمثّل وجها من ألمع وأجلى وجوه منظومة المشتركات الثقافية العربية التي (يمكن) إبرازها والبناء عليها في المشروع الهادف إلى تحقيق التكامل العربي المنشود". وهذا حسبما ورد في المقدمة التي وضعتها "مؤسسة الفكر العربي" للمجلّد الذي أشرف عليه الدكتور هنري العويط وحرّره الشاعر أحمد فرحات والدكتورة رفيف رضا صيداوي.
يحاول مجلد فيروز التكريمي التأريخ للأسطورة الساحرة التي كانت المغنّية صوتَها في لبنان والعالم العربي، وعاشت أجيال عربية كثيرة مسحورة به في تحولات حياتها وعواطفها ومشاعرها وأشكال تعبيرها، قبل أن تفاجئها وتفاجئ بلدانها قسوة التاريخ
بانوراما عربية
وهناك من يقول إن فيروز صوتُ "الهلال الخصيب" (لبنان وسورية وفلسطين، وربما العراق) في أرض الكنانة وبلاد النيل، وفي ديار المغرب العربي غربا، وفي بلاد الرافدين والخليج العربية شرقا. والمشاركون بشهاداتهم عن المغنية والمؤسسة الرحبانية في المجلد يكثر بينهم اللبنانيون (14 كاتبا وشاعرا وباحثا). ومن سوريا وفلسطين والأردن شارك 7 شعراء وكتّاب وباحثين. وهناك 4 شهادات من كتّاب خليجيين، ومثلهم من العراق. أما المغرب فشارك منه 3 باحثين وشاعر واحد. ومن مصر شارك أيضا 3 باحثين. وبعض من هؤلاء جميعا مقيم في بلدان غير بلدانهم الأم. ووحدها تونس وعمان والسودان واليمن تغيبُ عن المجلد شهادات من كتّابها.
أشكال الحضور
لكن هذه الشهادات مجتمعة تشكل لوحة بانورامية وافية عن أشكال حضور فيروز في الجغرافيا البشرية والثقافية للعالم العربي الذي يُجمِعُ شعراء وكتّاب وباحثون منه على أن صاحبة الصوت الكثير الألقاب والصفات هي - إلى جانب كوكب الشرق أم كلثوم - صوت العرب ولغة الضاد في العالم الواسع. والحق أن شهادات المجلد الكثيرة ليست سوى غيض من فيض ما كتبه شعراء وكتّاب عرب في صاحبة الصوت الأثيري طوال مسيرتها الفنية المديدة، منذ مطلع خمسينات القرن العشرين وحتى أمس قريب.
فالشاعر سعيد عقل - وهو أحد أركان المؤسسة الرحبانية الفيروزية، وغنّت فيروز الكثير من قصائده للبنان وسورية وفلسطين... – وكذلك الشعراء نزار قباني ومحمود درويش وأنسي الحاج وسواهم كثيرون، كان لصوت فيروز وسحره أثر ما في حساسياتهم الشعرية، فضلا عن القصائد التي غنتها لبعضهم. أما الشاعر جوزف حرب فجعل صوت فيروز، في الحقبة ما بعد الرحبانية، من قصائده الكثيرة التي غنتها له، على كل شفةٍ ولسان في البلدان العربية.
ومغنية الطبيعة اللبنانية هي أيضا مغنية مدن وبلدان عربية: مكة، القدس، دمشق، بغداد، الكويت، البحرين، عمان، وبيروت... ولفلسطين في النتاج الرحباني - الفيروزي حضورها البارز الذي شارك فيه سعيد عقل بقصائد عدة. وعن المصري مرسي جميل عزيز تنقل إحدى شهادات المجلد قوله مخاطبا العرب: "فيروز هي عدّة شغلكم" وعقّب أحد المثقفين العرب على قوله هذا: "في قلب كل من قرأ جملتين مساحة ضوء لفيروز وأغانيها". أما الجزائري سعيد هادف فكتب في شهادته: "أن أكتب عن فيروز، أجدني مدعوا إلى رصد ستة عقود من حياتي في علاقتها بالزمن السياسي - الثقافي للجزائر المستقلة". وكتب المغربي محمد المعزوز، مدير مركز شمال أفريقيا للسياسات، أن فيروز "كائن سماوي لا يُدرك منه إلا صوته العجائبي". وقال الشاعر اللبناني عقل العويط في شهادته: "أبحث عن الصوت، عن صوتكِ تحت الركام فوق الركام، في لبنان في سوريا في فلسطين، في بغداد في باريس، في الأمم المتحدة، في ضمير العالم، فلا أجد له أثرا". وعن أستاذ الفلسفة المغربي عبدالإله بلقزيز الذي افتُتِحَ المجلد التكريمي بشهادته، ننقلُ هنا أن "صوت فيروز يتفرّد بالجلال والبهاء في دائرة الأصوات الكبيرة في الغناء العربي (...) حين كان لدى العرب غناء وفن وذوق، قبل ميلاد زمن التفاهة في الأربعين عاما الأخيرة".
ونقع في الشهادات على مقتطفات من سيرة المؤسسة الرحبانية - الفيروزية منذ بدأت نشاطها في الإذاعة اللبنانية وإذاعة الشرق الأدنى وإذاعة دمشق، مطلع خمسينات القرن الماضي. وللمسرح الغنائي الذي طوره الرحبانيان (عاصي ومنصور) بناء على ما وضعه المصري سيد درويش، قسط أساسي في الحضور الفيروزي، خصوصا في معرض دمشق الدولي وبعلبك وبيروت بين مطلع الستينات والنصف الأول من السبعينات. وعندما كانت تُغلقُ الحدود بين سوريا ولبنان لأسباب "سياسية" آنذاك، كانت السلطات السورية تضطر أحيانا إلى فتحها كي تشارك فيروز في معرض دمشق الدولي.
والمسرح الغنائي الرحباني يقوم غالبا على حكايات شعبية بسيطية، وبعضها بطولي. وقبل المسرح ومعه، جاءت كلمات أغاني فيروز الشعرية بسيطة، وترفع البساطة أحيانا إلى معانٍ فلسفية. فالناقد السعودي سعد البازعي في شهادته الفيروزية كتب أن "الأغاني الرحبانية تتوغل كلماتها في اليومي وتجترح شعريتها من البسيط ومن التفاصيل المألوفة والكلام المتعارف (...) كما عند سيد درويش وبيرم التونسي وفي الفولكلور". والحق أن الفولكلور المشرقي هو معين أساسي في ذائقة الأخوين رحباني الشعرية والموسيقية.
وفيما كانت أفلام السينما الغنائية تغيب عن الإنتاج السينمائي المصري، أنتج الرحبانيان أفلاما ثلاثة من "بطولة" فيروز في نهاية الستينات ومطلع السبعينات: "بياع الخواتم"، "سفربرلك"، و"نجمة بنت الحارس". وقد استعين بمخرجين مصريين من أصل لبناني لإخراجها الفني: يوسف شاهين وهنري بركات. وهناك جندي مجهول في إخراج الأعمال المسرحية الغنائية للمؤسسة الرحبانية. إنه أحد أركان إذاعة الشرق الأدنى في حيفا الأربعينات، الفلسطيني صبري الشريف الذي استقر في بيروت بعد النكبة الفلسطينية، فتلبنن وحاز الجنسية اللبنانية. وكان دوره أساسيا في إدارة الفرقة الشعبية الفولكلورية الراقصة، وفي إخراج معظم أعمال المسرح الرحباني.
وتبين هذه الجغرافيا الفنية المترامية في البلدان العربية، أن ما من ظاهرة فنية عربية جمعت شعراء وملحنين وكتاب أغانٍ من بلدان عربية شتى في إنتاجها الغنائي والمسرحي والسينمائي مثل الظاهرة الرحبانية - الفيروزية. وهي في فرادتها هذه قد تكون استمدت دور لبنان وبيروت العربي طوال الربع الثالث من القرن العشرين (1950- 1975). وحين نهض مشروع إعمار وسط بيروت ما بعد الحرب الأهلية (1975- 1990) لم يجد رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري سوى فيروز صوتا وحضورا لمنح ذاك المشروع مشروعيته، فأحيت "مغنية لبنان الأولى" حفلة غنائية في قلب ساحة الشهداء المدمرة في أواسط التسعينات، من دون أن تمنع "الديموقراطية اللبنانية" أصواتا ثقافية تعارض المشروع ودعت فيروز إلى عدم الغناء في إطلاق المشروع الإعماري.
تبين هذه الجغرافيا الفنية المترامية في البلدان العربية، أن ما من ظاهرة فنية عربية جمعت شعراء وملحنين وكتاب أغانٍ من بلدان عربية شتى في إنتاجها الغنائي والمسرحي والسينمائي مثل الظاهرة الرحبانية - الفيروزية
الأيقونة الخالدة
وهناك من شبّه فيروز بأعمدة قلعة بعلبك التي غنت لها في نهاية الخمسينات: "أنا شمعة على دراجك/أنا نقطة زيت بسراجك". وقال كثيرون إن "مجد لبنان أُعطي لفيروز" أسطورة الصوت السحري.
وإذا كان صوتها أيقونة لبنان الخالدة في دنيا العرب ووجدانهم، فإن قسوة التاريخ وأقداره المريرة على بيروت ودمشق وبغداد وفلسطين، تترك الأساطير والأيقونات لخلودها، فيما تتحوّل هذه البلدان إلى خرائط دامية وجماعات وممزقة. هذا ربما لأن أهلها لم ينتبهوا إلى أن أساطيرهم وأيقوناتهم لا تكفي لصناعة التاريخ وبناء المجتمعات والدول.