كان من المتوقع أن يخرج فيلم "كله هادئ على الجبهة الغربية" بأوسكار أو بآخر. الرياح الساخنة للحرب في أوكرانيا منحته هذا التوقع والغالب أنها ساعدت في منحه أربع جوائز أوسكار: أفضل فيلم أجنبي، أفضل موسيقى تصويرية، أفضل تصوير، وأفضل تصميم إنتاج.
صحيح أن أحداث الفيلم تدور حول الحرب العالمية الأولى، لكن ويلات تلك الحرب تفعل فعلها للتذكير بحروب اليوم على الرغم من اختلاف نوعية السلاح وتعدد تكنولوجياته ونظمه. يستفيد هذا الفيلم الألماني أولا من أنه ألماني (وليس أميركيا كما كانت حال نسخة 1930 التي فازت حينها بأوسكار أفضل فيلم)، ومن حقيقة أن المخرج يستعرض الموت والعنف بأحدث وسائل الحرب والمؤثرات الخاصّة وفنونها.
استعراض الموت
تختلف بدايةُ فيلم إدوارد برغر عن بداية النسخة التي أخرجها لويس مايلستون سنة 1930 ونال عنها أوسكارا في العام نفسه. كلتاهما تختلف عن بداية الرواية التي وضعها الألماني إريك ماريا ريمارك في روايته المنشورة سنة 1928. يبدأ الكتاب بفصل عن سعادة المجنّدين الشبّان (الرواية مكتوبة بلسان الراوي) بيوم ممتع قُدِّم فيه الطعام بوفرة. آلام الحرب وفواجعها تأتي لاحقا بعد الفصل الثالث تحديدا. وتأتي بالتدرّج المناسب لرواية وصفية الأسلوب كما رواية ريمارك.
نسخة مايلستون تبدأ بباب يُفتَح على الشارع حيث يمر طابور كبير من المجنّدين المتجهين إلى الجبهة ثم تنحسب الكاميرا (بتصميم جيد) إلى غرفة محاضر يخبر طلابه بضرورة الدفاع عن ألمانيا- الأم مؤكدا أن هذا الواجب سيحمي البلاد من أعدائها وأن الجيل الجديد خير من يقوم بذلك.
نسخة 2022 الحديثة (الثالثة بعد فيلم مايلستون ونسخة تلفزيونية غير ذات أهمية حققها دلبرت مان سنة 1979) تبدأ بوطيس الحرب نفسها ثم ترجع إلى حيث بدأ الفيلم الأول باستعراض المتطوّعين ثم خطبة البروفسور الداعية إلى الجهاد ذودا عن ألمانيا.
يمنحنا إدوارد برغر دلالة على ما سيقوم باستحداثه خلال الفيلم، إذ يقفز إلى وطيس المعارك منذ البداية، قبل أن يعود إلى الوراء ثم ينتقل مجددا إلى الجبهة. لن يبقى في الجبهة مع المحاربين، بل سيتركهم أكثر من مرّة ليحيط بما وراء الحرب والمفاوضات والمواقف السياسية والعسكرية المتباينة بين الألمان والفرنسيين. أمر لم يختره الكتاب ولا فيلم مايلستون. يأخذ برغر الحكاية الأصلية ويضيف عليها مشاهد غير واردة فيها. مثلا تخلو الرواية الأصلية من العديد من الشخصيات التي ابتدعها المخرج لغاية جلب المزيد من التعاطف مع الجنود الألمان والقول إنهم كانوا ضحايا السياسة الألمانية. أمر فعله مايلستون من دون مثل هذه الإضافات. كذلك يُغيّب شخصية الفيلم الأولى بول بومر (فليسك كامرر) لفترات ينتقل خلالها إلى مشاهد بعيدة عن الجبهة. بذلك يبدو بول كأنه فوق أرجوحة. هو أمام الكاميرا حين يشاء المخرج وبعيدا عنها عندما يرغب المخرج في توسيع رقعة الأحداث.
الفيلم، موجزا، هو عن تجربة الشبّان الألمان الذين وعدتهم المؤسسة الوطنية بأن معظمهم سيعود من الحرب ويكافأ على ما قام به. وهذا ما لم يحدث إذ اكتشف هؤلاء آلام الحرب وفواجعها والخوف من الموت المُجسّد في كل رصاصة أو قذيفة تُطلق عليهم. المشاهد التي يختارها برغر مؤلمة، لكنها أيضا، وفي الباب الأول، استعراضية. بالتالي تعاني من انخفاض نسبة الحس الصادق بالمأساة، محوِّلةً الموت إلى مشاهد عنيفة لأجساد طائرة بفعل القصف، ولجنود يفقدون أطرافهم أو حياتهم ويتحوّلون إلى أشلاء تُجمع في أكياس بعد أن تُخلع بزاتهم عنهم لكي تُرسل إلى حيث سيعاد تخييطها لاستخدامها مرّة أخرى.
تاريخ يدلف إلى تاريخ
النسخة الجديدة أكبر حجما (بموازنة 36 مليون دولار) وتستفيد من التقدم الصناعي الكبير الذي تحقق خلال 92 سنة على الإنتاج السينمائي الأول (الذي تعرضت بعض مشاهده للحذف عندما عُرض صامتا في فرنسا خصوصا تلك المشاهد التي تصوّر سقوط ضحايا فرنسيين). كما تحشد النسخة الجديدة القدرات الإنتاجية المختلفة التي تُستخدم بحذق وتوليف جيدين. كذلك يترك المخرج للكاميرا أجواء الحرب والعنف أحيانا، لمشاهد من الطبيعة الجميلة لمن قد يرنو إليها في وسط المعمعة. جماليات موقوتة تُفيد فعل التنفّس بعيدا من صرامة الموضوع ولو لبعض الوقت.
ليس من شك في أن الفيلم يؤدي الرسالة المعادية للحرب (كلّ حرب)، لكن الطريق المختار لإيصال الرسالة هو البرهنة على أن هذا الفيلم هو أفضل ما يمكن تحقيقه من أفلام حربية. المخرج برغر يسعى إلى تأكيد ذلك ويكاد أن ينجح لولا أن هذا الرغبة تستحوذ على مشاعر كان عليها أن تقود بحس صادق ورغبة في إيصال الرسالة قبل التباهي بها.
يشعر المُشاهد بأن الفيلم المذكور يشبه مرآة مبكرة للحرب الأوكرانية الدائرة، بحيث يصبح من السهل النظر إلى واقع الحرب في أوكرانيا كمهد متّسع حاليا لسينما الحرب من داخل الصراع في الأزمنة الراهنة وليس من خارجها. وهو كذلك مرآة لحروب عديدة خاضتها أوروبا قبل عهد نابوليون وما بعد. حروب أوروبا الفادحة تشبه لعبة شطرنج بين أفرقاء لا يجيدون الا الهزيمة. يحتلون بلادا ويخسرونها بعد حين. يغزون هنا وينسحبون هناك ويتداولون دورات ومعارك على مختلف الجبهات، العسكرية منها والمدنية. لذلك، تبدو الحروب الحالية استمرارا مؤكدا لما طرحه فيلم "كله هادئ على الجبهة الغربية"، بل- في نظرة لا تخلو من السخرية- مذ خسر نابوليون حربه ضد الإنجليز في موقعة واترلو الشهيرة سنة 1815.