"لم أر مثل هذا الرعب في حياتي"، يحدثني صديقي الذي عاد أخيرا للعيش في مدينتنا عفرين. فكرتُ بالرجل الذي عاش الحرب كلها، في أمكنة تحت قصف براميل النظام المتواصل لأشهر، ارتحل من مكان إلى آخر مع عائلته، شاهد بأم عينه الحرب بكل ألمها وحقارتها، رأى الأبنية تنهار كقطعة بسكويت، وأشلاء الأطفال ممزقة تحت الركام. فكرت بصديقي الذي شاهد كل شيء ويصف الزلزال بهذه الجمل المرعبة، ليقرّب لي حجم الرعب.
انتقل صديقي من بيت إلى بيت محاولا التمسك بعمله، ومدارس أطفاله الثلاثة، ليعود أخيرا إلى مدينتنا الجميلة التي نفاخر نحن أبناءها بأنها عاصمة زيت الزيتون في سورية، ونفاخر أيضا بأن لزيتها سمعة عالمية. حين كنا نتحدث، كان يرسل إليَّ صور الزيتون والرمان والتين، ولا يترك مناسبة لا يغريني فيها بالعودة إلى الينابيع الصافية كما نسميها، حيث الصباح له طعم مختلف عن أي مكان في العالم. لا نتوقف عن ممارسة الحنين الى طفولتنا، الى الأمكنة التي دمرها الزلزال بعد نجاتها من الحرب.
كنت أحسده لعيشه في الجنة على الرغم من أن فصائل معادية لها ولثقافتها الكردية تحتلها، لكننا كنا متفقين بأنهم ككل الغزاة سيرحلون ذات يوم نتمناه قريبا.
تحت الركام
صباح الزلزال رأيت صديقي معفرا بالتراب يحاول المساعدة في إنقاذ الأرواح تحت ركام بيوت بلدة جنديرس. بيديه العاريتين يعمل مع شباب الدفاع المدني الذين حظهم بالمعدات ليس أكثر من حظ صديقي؛ أياد عارية وقلوب مليئة بالحب. يقول لي: "الموت تحت الركام لا ينتظر وصول فرق الإنقاذ التي تمتلك كل الوسائل، يجب أن نفعل شيئا".
مذ كنا في الجامعة كان صديقي يسبقنا إلى الأمكنة التي تحتاج إلى مساعدة، ويقول جملته الشهيرة: يجب أن نفعل شيئا.
كانت جنديرس أكثر الأمكنة تضررا. أكثر من نصف بيوت البلدة دُمرت وباقي البيوت لا يمكن العيش فيها. الموتى بالمئات، وبالآلاف هم الجرحى، والذين أصابهم هلع وخوف سيعيش تحت جلدهم. أشعر بأنني سأموت لا محالة مع الأجساد التي لم يسمع العالم صرخات استغاثتها، وتقددت مختلطةً مع الاسمنت والحديد والتراب. الجثث في كل مكان، الممرات في المستشفيات مليئة بالموتى المبتوري الأعضاء في انتظار تعرّف ذويهم عليهم ودفنهم. لا يمكن وصف المشهد بسوى القيامة، التي تخيلتها تماما كما حدثت في سورية؛ اثنتا عشرة سنة من الحرب، فاخرت روسيا بأنها جربت ثلاثمئة نوع من سلاحها الفتاك، عرضت بيعه لدول العالم، وحين بدأت حربها على أوكرانيا تحولت هذه الأسلحة إلى خردة حقيقية، ولم يبق إلا السلاح النووي تهدد به العالم. كان يجب أن تضيف روسيا إلى إعلان تجريبها الأسلحة في سوريا، أن أسلحتها مخصصة للفتك بالأطفال والمدنيين العزل فقط.