ما الذي بقي من حركة "فتح"؟

Getty
Getty
ياسر عرفات اثناء حفل تخريج دورة عسكرية لـ"فتح" في العاصمة الاردنية عمان سنة 1970

ما الذي بقي من حركة "فتح"؟

مازالت حركة "فتح" تحتفي بانطلاقتها، في الأول من يناير/كانون الثاني من كل عام، بعد 58 عاما على إنشائها (1/1/1965)، وعلى رغم إنها لم تعد هي ذاتها، لا على صعيد خطابها السياسي ولا على صعيد بنيتها التنظيمية ولا على صعيد الشكل الكفاحي الذي توسلته لتحقيق أهدافها، كما ولا على صعيد طبيعة علاقتها بشعبها؛ علما إنها هي التي قادت الكفاح الوطني الفلسطيني المعاصر، وطبعته بطابعها.

في الواقع، فقد اختفت الحركة الوطنية التي جسّدتها "فتح"، في ذلك الزمن، بخاصة بعد تحولها إلى سلطة، بموجب اتفاق أوسلو (1993)، في علاقاتها مع شعبها وعلاقاتها الخارجية، وهي كفصيل أضحت بمثابة حزب لتلك السلطة، كتشكيل سياسي بيروقراطي، يشتغل لصالح الطبقة المهيمنة في الحقل السياسي الفلسطيني، مع ملاحظة جمود تلك الحركة التي لم تعقد في ثلاثة عقود (1993ـ 2023) سوى مؤتمرين لها في الداخل، الأول (السادس، وعقد عام 2009)، أي بعد 16 عاما على ذلك التحول، والثاني (السابع، وعقد عام 2016)، من دون إجراء أية مراجعة نقدية لتجربتها، الكفاحية، ومن دون مساءلة، أو محاكمة، للخيارات التي انتهجتها، ومن دون توضيح الاستراتيجية السياسية والكفاحية التي يفترض أن تنتهجها لتحقيق أهدافها.

أيضا، فإن العالم الذي نشأت فيه تلك الحركة، ونهضت، اختفى تماما، فعالم الحرب الباردة، والانقسام إلى قطبين أو معسكرين، لم يعد موجودا، إذ اختفى الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، في حين بات لإسرائيل اليوم علاقات متميزة مع الدول الكبرى، وهذا يشمل، إلى الدول الغربية، كل من روسيا والصين والهند ودولا إفريقية وآسيوية. يشمل ذلك اختفاء الحاضنة العربية للحركة الوطنية الفلسطينية، واختفاء فكرة أن فلسطين هي القضية المركزية للأمة العربية، نظريا وعمليا، لأسباب تتعلق بانكفاء البعد العربي في الصراع ضد إسرائيل، سيما مع وجود أولويات ومخاطر مختلفة أخرى، تهم كل بلد على حدة، وفي ظل خطر تزايد نفوذ إيران في بلدان المشرق العربي واليمن.

وفي الواقع فإن "فتح"، التي أسست لنهوض الشعب الفلسطيني من النكبة (1948)، وفرض وجوده على الخريطة السياسية العربية والدولية، وانتزاع الاعتراف بكيانه السياسي الجامع - منظمة التحرير- كممثل شرعي له، والتي كانت حققت كل ذلك في سنواتها العشر الأولى (1965ـ1975)، أخفقت بعد ذلك في أي من الخيارات السياسية، التي انتهجتها، سواء في تحرير فلسطين، أو في دحر الاحتلال الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية المحتلة (1967)، وفي شأن إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع، في الكفاح المسلح وفي الانتفاضة وفي المفاوضة، وفي بناء المنظمة وبناء السلطة؛ أي إن تلك الحركة تعيش في أزمة مستعصية منذ أواسط السبعينيات إلى الآن، أي في العمر الأطول من عمرها (1975 إلى الآن)، ما يشكل نصف قرن. ولا يغطي من طبيعة وعمق تلك الأزمة تحول الحركة الوطنية الفلسطينية إلى سلطة، لأنها مجرد سلطة على شعبها، ولا بقائها كمركز قيادي للسياسة الفلسطينية، مع تضييع منظمة التحرير، ولا الظروف الموضوعية، وضمنها التقييدات الإسرائيلية، لأن ذلك لا صلة له بكيفية بناء الحركة الوطنية لذاتها، أو إدارتها لوضعها، أو ترشيدها لخياراتها.

إن العالم الذي نشأت فيه تلك الحركة، ونهضت، اختفى تماما، فعالم الحرب الباردة، والانقسام إلى قطبين أو معسكرين، لم يعد موجودا، إذ اختفى الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، في حين بات لإسرائيل اليوم علاقات متميزة مع الدول الكبرى، وهذا يشمل، إلى الدول الغربية، كل من روسيا والصين والهند ودولا إفريقية وآسيوية

هكذا لم يبق من "فتح"، التي تأسست في منتصف الستينيات، لا هي ولا عالمها، باستثناء محمود عباس (أبو مازن)، وهو الذي يقود المنظمة والسلطة و"فتح"، في آن معا (المؤسسين فاروق قدومي ومحمد راتب غنيم باتا من دون فاعلية)، إذ هي أكثر حركة استهدفتها إسرائيل فقضى معظم مؤسسيها أو قيادييها شهداء، هذا ينطبق على قائدها ومهندسها ياسر عرفات. أيضا لم يبق من حركة "فتح"، سوى تلك السيرة من التجارب السياسية، الغنية، التي بالكاد يوجد من يحاول دراستها، وألوف الشهداء والجرحى والمعتقلين، مع كل التضحيات الباهظة التي دفعها الشعب الفلسطيني طوال حوالي ستة عقود.
الفكرة هنا أن محمود عباس، هو الباقي من "فتح"، ومن قيادتها التاريخية وهو في أواخر الثمانينيات، لكنه بقي مع حركة لا تشبه الأولى، ولا يمكن اعتبارها امتدادا لها، أو حالة متطورة عنها، ففي عهده ترهلت بني "فتح"، وضعف مركزها القيادي، وانحسرت صدقيتها الكفاحية، وخسرت مكانتها التمثيلية الجامعة، بواقع خسارتها الانتخابات التشريعية (2006). وفي عهده حصل الانقسام الفلسطيني، ونجم عنه خسارة "فتح" قطاع غزة (لصالح حركة "حماس")، وفي عهده تم تهميش المنظمة، وبات كيان السلطة الفلسطينية مجرد سلطة أخرى على الفلسطينيين، تحت سلطة الاحتلال، في حين تفكك مفهوم الشعب الفلسطيني، بحيث بات لكل تجمع فلسطيني أولوياته وحاجاته، في غياب رؤية وطنية جامعة، وكيان سياسي جامع.  

Getty Images


للتذكير، فقد ساهمت عدة عوامل في صعود حركة "فتح"، في الستينيات، او سهلت ذلك، أولها، ظهورها كحركة تحرر وطني، تعددية، ومتنوعة، وليس على شكل حزب أو حركة أيديولوجية. وثانيها، مبادرتها للكفاح المسلح، كرد على النكبة، وكحالة فعل كفاحية لاستنهاض الفلسطينيين. وثالثها، هزيمة حزيران (1967)، التي جعلت من الكفاح المسلح الفلسطيني حاجة للأنظمة العربية وقتها، للتغطية على تلك الهزيمة. ورابعها، تدفق الموارد المالية عليها، بحكم طابعها الوطني البرغماتي، ولحاجة النظام العربي لها. وخامسها، قدرتها على الاستثمار في المحاور والاستقطابات الدولية والعربية في ذلك الوقت، في ظروف الحرب الباردة، وظروف انقسام العالم العربي في حينه.

طبعا الحركات السياسية، مثل أي ظاهرة، تخضع للتحول والتغيير، لكن ما جرى لـ"فتح" لا علاقة له بذلك. أيضا، مفهوم أن ثمة ظروف موضوعية، أيضا، أدت إلى اخفاق المشروع الوطني الفلسطيني الذي جسدته، أو حاولته "فتح"، مع ذلك ثمة عطب ذاتي، تمثل في طريقة إدارة هذه الحركة لأوضاعها، وصوغها لخياراتها، وهذا ما يجب التركيز عليه، لا سيما أن تلك الحركة في ظل أوضاعها الراهنة لا تبدو قابلة للتطور أو للنهوض، بعد تحولها إلى سلطة، وبعد تفكك مفهوم وحدة الشعب الفلسطيني، وتفكك قضيته، وكل ذلك جرى على خلاف الفكرة الوطنية التي حاولتها "فتح"، في ذلك اليوم، قبل 58 عاما.
 

font change