في رحلتي الصيف الماضي إلى أمهات المدن، من سمرقند وبخارى وخيوه وترمذ، أكثر ما لفتني في معمارها هو فن الخط، حفرا وكتابة، وهو من أعمق الفنون التي تداعب الحواس.
فن الخط هذا، إن وضع في لوحةٍ بمعرض، لا يشترط على المشاهد المتذوق، أو المتلقي، أن يقرأ المكتوب. فالفن في أصله جلبٌ للتأمل، وشيءٌ من التدبر والتبصر، ومع ذلك هو فن يحفز العين على معرفة قراءة المفردات القليلة والنفيسة المختارة لتصبح تشكيلا في اللوحات، بليونتها وامتداداتها، كأنها رحلة نوعية ترغبنا بفهم أركان هذه الهندسة الراقصة ومدى دقتها، ناهيك بقوانين كل مَشقٍ وقياساته على حدة، وكل حرف بين الخط والنقطة والدائرة، وبتجريد يجمع بين الجمال والانتفاع من نسخ ورقعة وكوفية وثلث وديواني وفارسي... حتى يتساءل البعض كيف لهذا الحرف المنطوق في الكلمات المختارة أن يكون بهذه القيمة؟
في هذه المدن القديرة التي جبتها في آسيا الوسطى، وقبلها الأندلس ومصر والمغرب، وجدت أن المقتدرين مالا من هؤلاء القدماء والمتنورين منهم تحديدا ومن أهل الذائقة، هم فقط من استخدموا فن الخط على معمارهم وجدران بيوتهم وقصورهم ومجالسهم ومقابرهم، بالإضافة إلى اهتمام إدارات هذه الدول الماضية بنحت ورسم جدران المدارس ومآذن المساجد والمحاريب والمنابر، وحتى مباني الحكم والديوان، وبالتفنن في حفر آيات وأشعار وحِكَمٍ وأقوال، منها بقيت إلى اليوم كأثر من ذائقة خالدة، ومنها تأمل في تاريخ الأولين، وفي جوهر نستطيع أن نستدل به على حياتهم الفكرية.
نرى في تلك النماذج العديدة كيف يتداخل فن الخط في ارتحال زمني ضمن ثقافات متعددة، مع براعة الخيال، فيمنح المكان قراءة ونطقا وبصيرة وملمسا وتحسسا.
يتداخل فن الخط في ارتحال زمني ضمن ثقافات متعددة، مع براعة الخيال، فيمنح المكان قراءة ونطقا وبصيرة وملمسا وتحسسا
نلاحظ اليوم كيف ينشط الزائر الأنيق في الاطلاع على معارض فن الخط، وكيف تُعدّ هذه المعارض من أجمل جولاته وأكثرها ثراء، وهو يطوف بين لوحات يتلقى منها فنا وفكرا من مدارس متعددة لفن الخط، ونصوص خطية قصيرة جدا ومختارة من تيارات كلاسيكية تقليدية وحديثة مبتكرة.
حين عدت إلى الديار، حيث مدننا السريعة والحديثة والمبتكرة، تبادر إلى الذهن سؤال، ألا يستحق فن الخط، بعدما بات فنا خاصا، أن يُتوَّج من جديد في عمائرنا الحديثة، بحيث نغطي حروفنا فوق مبانينا الزجاجية والاسمنتية المبنية، سواء الأفقية أو العمودية التي تتجاوز جسد الغيم، حفراً ورسماً، كهوية حروف مميزة عربية لا وجود لها في العالم كله؟ فماذا لو تمت تغطية العمائر الزجاجية الشاهقة بفن الخط العربي، فنُدخل في البناء نهضة فنية جديدة؟ وماذا لو تدخلت البلديات في تفعيل هذا الشرط الفني لكل مالكٍ وبانٍ، بدءا بالمباني الخاصة للمؤسسات الحكومية الرسمية، الخليجية والعربية، لتبدو فنية الطابع، حروفية الملمح، عبقرية الابداع والمضمون، إلى بقية المشاريع من مولات ومنازل وأسوار؟
لا ننكر أن شباب اليوم يرغبون بالعمائر الحديثة الطابع، فالحداثة رغبة الجميع، لكننا في الشرق الخليجي العربي قَلَّ من جَدَّدَ وحَدَّثَ معماره العتيق، فكل معمار حديث كما نعلم متجدد وهو آتٍ من الغرب والشمال، بينما مبانينا الأولى لم نجدد أفكارها ولا حتى جودتها أو أناقتها بسوى الترميم.
في العودة إلى موضوع فن الخط العربي في المعمار، بمدراسه الكلاسيكية والحديثة، إذا اعتمدنا المدارس المتجددة الحروف في أركان وزوايا البيوت والعمائر والأزقة والأسواق، وعلى أقل تقدير في زاوية صغيرة من كل مبنى في المدينة، فستنهض بالتأكيد من هذا المشروع وتتفتح مدن أنيقة على تخوم جسدها حروف من ذاكرة استرجاعية، فتتحول مع تطبيق الفكرة إلى مدن بهوية منتمية وشاعرية المعنى. وبين مدينة وأخرى تزهر مدن تتصل بتراث المكان الجمالي والثقافي، وتصبح كأنها ولدت من جديد بزجاجها وأسمنتها، بعد ثورة فنية حروفية تنتشر بشكل موسيقي. بهذا يصبح للخط مستقبل يتكيف مع مواد البناء وأهل المكان، ويتقبل إضافات فنية من أحجام وأشكال، ويصبح فنا مستمرا ينمق البناء الذي يؤوي قلوبنا بحروف أشبه بكائنات حيّة لها عبارتها ونسبها وأسرارها.