"بتفاحة سأذهل باريس"، ذلك ما قاله الرسام الفرنسي بول سيزان الذي يقدم متحف "تيت مودرن" بالتعاون مع "معهد شيكاغو للفنون" معرضا شاملا لرسومه استمر خمسة أشهر كاملة تنتهي في 12 مارس/آذار الحالي. لكنها ليست المرة الأولى التي تُسلط فيها الأضواء بطريقة احتفالية على تجربة الفنان الذي توفي عام 1906. ألم يشبع العالم من سيزان، وفي الأخص أن غالبية أعماله معروضة في المتاحف العالمية مثل "اللوفر" بباريس و"ناشيونال غاليري" بلندن و"متحف الفن الحديث" بنيويورك؟
الخلود المتاح لشاب في العشرينات
ما من رسام فكر في خلوده مثلما فعل سيزان. وإذا كان قد حُرم بسبب موته من سماع اللقب الذي التصق به إلى الأبد وهو "أبو الحداثة الفنية"، فإنه كان قد استمع في حياته إلى صديقه كلود مونيه وهو يقول "سيزان أعظم منا جميعا"، غير أن ابن "اكس اون بروفانس" وصديق الروائي أميل زولا منذ الطفولة لم يكن ليكتفي باللقب الذي جاد به كبير الانطباعيين.
حين قدم إلى باريس في العشرينات من عمره كان في ذهنه هدفان: الأول أن يكسر قواعد الرسم المعمول بها منذ خمسة قرون، والثاني أن تحتل أعماله مكانا بارزا على جدران متحف اللوفر. وقد تحقق له ما أراد بعد موته بسنوات قليلة وإن لم يُحرم في سنواته الأخيرة من انتشار صيته بين فناني باريس، كونه الرسام الذي سيقترن باسمه مفهوم الحداثة الفنية بكل ما انطوى عليه من تحولات ثورية مشاغبة، كانت التكعيبية التي اخترعها جورج براك وبابلو بيكاسو في طليعتها.
لم يكن سيزان تكعيبيا بالتأكيد، غير أن المحتوى الهندسي لأشكاله الذي كان بديلا من المنظور التقليدي، قد مهد لولادة ذلك الأسلوب الفني الذي أفضى عام 1907 إلى ولادة لوحة "آنسات أفينيون" لبيكاسو التي تعد واحدة من أهم نذر الفتح المدمر الذي سيكون الرسم في القرن العشرين مشدودا إليه بخيط لا ينقطع.
ما فعله سيزان بجرأة وشجاعة مذهلتين، أنه رسم الموضوعات التقليدية (البورتريه، الطبيعة الصامتة، العري والمناظر الطبيعية)، لكن بطريقة لم يألفها الرسم من قبل. فهو إما عالج مرئياته من أكثر من منظور، كاسرا قواعد المنظور الموحد، أو استبدل نظرية المنظور كلها بقواعد هندسية، حين جعل من المثلث والدائرة والمربع أساسا لإنشاء أشكاله، فتعزز بين يديه مفهوم سطح اللوحة الذي هو حياة لا يمكن تقليدها.
مغامرة عبقرية
المعرض الذي استعيرت محتوياته من متاحف عالمية ومجموعات خاصة، يضم أكثر من ثمانين عملا أساسيا لسيزان في مختلف مراحله الأسلوبية. ولكن في العمق يظل استفهام جوهري حاول منسقو المعرض الإجابة عنه: "لِمَ العودة إلى سيزان ضرورية في كل جيل؟". ربما النظر إلى ما جرى للرسم في القرن العشرين يحمل شيئا من تلك الإجابة. لقد فتح سيزان الباب لكسر القواعد، غير أنه لم يكن داعية فوضى. عقله الهندسي لا يوحي بذلك. كما أن تأثره بسلفه الفرنسي نيكولا بوسان (1594 ــ 1665) رسام عصر الباروك، يجعل الأمور أكثر تعقيدا. لا اعتقد أن هناك أحدا اليوم يعتبر سيزان مذنبا بسبب الفوضى التي نتجت من مغامرته العبقرية.