سعى النظام السوري منذ استعادته للمناطق المحيطة بدمشق عام 2018 إلى تصوير العاصمة كملاذ آمن وهادئ. فبالإضافة الى الأهمية الرمزية للمدينة، فإن تأمين دمشق والمناطق المحيطة بها والمعروفة باسم ريف دمشق كان أمرا ضروريا لإعادة التأهيل السياسي والتعافي الاقتصادي للنظام.
لم يطل الأمر كثيرا حتى بدأت بعض الحكومات بتصديق رواية الأسد. وبناء على الغياب النسبي للأنشطة المناهضة للنظام، فقد اتفقت السويد والدنمارك، ومعهما دول أخرى، على اعتبار دمشق مدينة آمنة بما يكفي لإعادة اللاجئين السوريين إلى ديارهم.
على أن هذا الاختيار المفرط في تبسيط المخاطر، بات قيد التدقيق مجدّدا. فقد ارتفع عدد الاغتيالات والحوادث الأمنية المُبلغ عنها في دمشق ومحيطها بشكل كبير خلال العام الماضي، ما أثار تساؤلات جدية حول استقرار المناطق التي تسيطر عليها الحكومة.
فقد تم الإبلاغ عن 11 هجوما موجها في عام 2021، أسفر عن سقوط 32 ضحية. بالمقارنة، شهد عام 2022 47 حادثا أمنيا مع 67 حالة وفاة تم الإبلاغ عنها، أي بزيادة بقدر 400 % عن العام السابق. وخلال الشهرين الأولين من عام 2023، تم الإبلاغ عن 14 حالة أمنية وتسع إصابات، في إشارة واضحة إلى ان الوضع يزداد سوءا.
ومع ذلك، لم تبلغ وسائل الإعلام الموالية للحكومة عن كافة الحوادث، واختارت بدلا من ذلك التقليل من حدّة تصاعد العنف. وحتى عند قيامها بالإعلان عن بعض هذه الهجمات، فقد كانت وسائل الإعلام المدعومة من النظام تصوّر تلك الأهداف على أنها أهداف مدنية.
ومن ناحية أخرى، أفادت مصادر إخبارية مستقلة أن جميع الضحايا تقريبا كانوا من المقاتلين الموالين للحكومة أو المتعاونين معها. وبحسب الحصيلة التي وصلت إليها هذه المصادر، فإن 83 ضحية من بين 88 قتلوا في مثل هذه الحوادث عام 2021، كانوا أفرادا من القوات المسلحة التابعة للنظام أو المليشيات الأجنبية المدعومة من إيران – بما في ذلك "حزب الله" اللبناني وميليشيا "فاطميون" الأفغانية.
وعلى الرغم من أهمية هذه الهجمات، التزم الجناة جانب الصمت حولها تماما. وكانت "داعش" إحدى المجموعات القليلة التي أعلنت مسؤوليتها عن بعض الهجمات التي وقعت. أما بالنسبة للحوادث الأخرى، فإن الوسائل التي نفذت بها توفر أدلة عن خلفية الجهات المسؤولة عنها.
وعلى سبيل المثال، ذكرت العديد من المؤسسات الإعلامية أنه تم العثور على 18 ضحية بعد عدة أيام من اختفائهم، مما يشير إلى أنهم قد اختطفوا أوّلا. وقد أصبح الخطف مقابل الفدية ظاهرة منتشرة في سوريا، ويدل هذا على إمكانية أن تكون الجماعات الإجرامية هي من ارتكب بعض هذه الحوادث. وإذا كان الأمر كذلك، فمن الممكن أن تكون عمليات القتل قد حصلت إما لأن عمليات الخطف لم تكن ناجحة، ولم يحصل الخاطفون على الفدية، أو لأن المهاجمين أرادوا إخفاء آثار جرائمهم.
من المحتمل أن تكون بعض الهجمات، خاصة تلك التي تضمنت إطلاق نار أو اشتباكات مباشرة، عملا داخليا. فقد أدى انخفاض وتيرة القتال في سوريا إلى زيادة المنافسة بين الجماعات الموالية للنظام على النفوذ والموارد
وقد استخدمت العبوات الناسفة في عشر عمليات لم يعلن عنها عام 2022 وثلاث حدثت هذا العام، أما الحوادث الأخرى فقد نفذت باستخدام أسلحة نارية. وبالنظر لأن الأشخاص المستهدفين كانوا أعضاء من نظام الأسد أو أشخاص مدعومين من قبله، فمن المحتمل أن الثوار السابقين كانوا مسؤولين عن بعض هذه الهجمات، كونهم يملكون دوافع ومهارات وموارد لتنفيذ مثل هذه الهجمات.
وبالإضافة إلى فشله في الوفاء بالالتزامات التي تعهد بها خلال مفاوضات استسلام (المناطق الخارجة عن سيطرته) في 2018، بما في ذلك إطلاق سراح المعتقلين، فقد كثف النظام جهوده لتجنيد شبان من ريف دمشق في الخدمة العسكرية الإلزامية. والأهم من ذلك، فإنه من المحتمل أن تدهور الظروف المعيشية وارتفاع معدلات الجوع قد شكلا حافزا لتجدد المقاومة بعد حوالي عامين من الهدوء النسبي.
ومن المحتمل أيضا أن تكون بعض هذه الهجمات، خاصة تلك التي تضمنت إطلاق نار أو اشتباكات مباشرة، عملا داخليا. فقد أدى انخفاض وتيرة القتال في سوريا إلى زيادة المنافسة بين الجماعات الموالية للنظام على النفوذ والموارد. وبينما تمت تسوية بعض هذه الحوادث من خلال مواجهات مباشرة بين الأطراف المعنية، فقد قرر البعض استخدام وسائل أكثر سرية لتصفية الحسابات.
ومع ذلك، فإن هوية الجناة ليس الأمر الأكثر أهمية في هذه الحوادث. فالأمر المجهول حقا هو مدى تمكن النظام من منع تكرار مثل هذه الهجمات لاحقا. وفي حين أن الإجابة على هذا السؤال ما زالت غير واضحة، فإن النمط العشوائي لهذه الحوادث وانتشارها عبر مساحة كبيرة نسبيا وتنوع المشتبه بهم يجعل مثل هذه المهمة تحديا هائلا.
وحتى لو تمكن النظام من وضع حد لموجة القتل هذه، فقد أظهرت التطورات الأخيرة أن أمن المناطق التي تعتبر رسميا آمنة هو في الواقع أمن مزعزع وهش.
ولا ينبغي أن تنخدع الحكومات الغربية بادعاءات الأسد بأن العاصمة السورية آمنة للاجئين أو لأي شخص آخر، إذ أن سوريا ما تزال في حالة حرب، والطريق الوحيد للسلام الدائم فيها هو الحل السياسي الشامل والعادل.