مع بلوغ سعر الوقود في لبنان أسعارا فلكية، صار المكان ممتنعا على القسم الأكبر من اللبنانيّين، واكتست هذه المادة ملامح مناقضة لوظيفتها. إذ تحولت من عنوان التواصل واللقاء إلى مرآة تعكس العزلة والوحدة والكفّ عن الفاعليّة وانعدام الحيويّة.
راكمت هذا الواقع سلاسل الانهيار الاجتماعيّ اللبنانيّ الذي بلغ في السنوات الأخيرة درجة غير مسبوقة من الحدّة المتنامية، حيث تضيف كل لحظة تمر إلى مساره الانحداري أبعادا درامية جديدة.
لا آليات حماية اجتماعيّة ترمّم جراح المكان وناسه. بدأ الناس يراكمون مشاعر الشعور بالعراء، ويحرصون على الهرب منها والدفاع عن أنفسهم بعزلة ليست في نهاية المطاف سوى نتيجة للأزمة وليست نظام وقاية منها.
في الوقت نفسه، فإن إغلاق الكثير من الأماكن الشهيرة أبوابها، فجّر علاقات متأزمة مع الشوارع التي باتت ساحات فراغ معادية. سعر الوقود المرتفع تسبّب بانكماش الحياة اليوميّة وانغلاقها واقتصارها على الضروريّات، ليخلق تاليا سيرورة معان جديدة تكتسب فيها الأمور سياقات مناقضة لما كانت تدلّ عليه في السابق. كلّ حدث صار موصولا بتأويل سلبيّ يربطه بأزمة أو مشكلة.
وجد اللبنانيون أنفسهم معتقلين في زمن الجوائح ومجبرين على الإقامة فيها، ما خلق شعورا عميقا بالبرد والجوع.
وكانت الباحثة والمحلّلة النفسية الألمانية فريدا فروم رايتشمان، وهي من أوائل من حلّل الآثار الاجتماعية والنفسية للوحدة، في مقالها الشهير "الوحدة" (1959)، قد رصدت العلاقة بين الشعور بالوحدة والبرد من خلال دراستها لحديث مريضة تروي معاناتها مع الوحدة قائلة: "لا أعلم لماذا يعتقد الناس أنّ الجحيم مكان يحترق فيه كلّ شيء، هذا ليس جحيما، الجحيم هو أن تكون محاصرا في عزلتك في كتلة من الثلج. هذا ما مررت به".
وتظهر دراسات حديثة قامت بها "الجمعية الأميركية للمتقاعدين" أن التأثير الجسدي البيولوجي للوحدة يعادل تدخين 15 سيجارة يوميّا وأنها تؤثر على الجهاز المناعي بشكل عام وتقلل مقاومته للأمراض. كذلك تؤكد دراسة لجامعة "كارنيغي ميلون" أن الوحدة تقلل قدرة الجسم على مقاومة البرد والأمراض وتعزز سلوكات إدمان الطعام وغيره، وتتسبب بتراجع الصحة العقليّة والإصابة بالخرف وصولا إلى الموت المفاجئ.
وتشير إحصاءات معهد القياسات الصحية العالمي(IHME) لعام 2016 إلى أنّ البدانة في وسط اللبنانيّين بلغت حدا خطيرا للغاية، فنسبتها وصلت إلى حدود 31%، كما أن نسبة الزيادة في الوزن بلغت 67،9%. هذه النسبة التي سُجّلت منذ سبع سنوات مرشحة للزيادة قياسا إلى تردي الأحوال وما يكرسه من سلوكات إدمانيّة.
يقول هذا الواقع إنّ الناس يجعلون أجسادهم مستودعات لتخزين الطعام خوفا من شعور خفي بالمجاعة، كما أن الكروش المتدلية تلعب دور الحاجز أو المتراس الذي يقيهم أعباء تواصل تتعقّد شروطه على الدوام.