دور أكرم الحوراني
كان الحوراني أكثر جاذبية من عفلق والبيطار، وأكثر ارتباطا بالسوريين العاديين، لكنه كان أيضا أشدّ طموحا وأقلّ تسامحا. كان قد جاء من عائلة من ملّاك الأراضي فقدت كل ممتلكاتها، ما خلق عنده ردّ فعل جعله ينظر باحتقار إلى أي شخص من النخبة الثرية في سوريا. تأسس حزبه الاشتراكي العربي على أيديولوجيا ماركسية وتمحور حول شخصيته الكاريزمية. هاجم نخبة ملاّك الأراضي واتهمهم بتكديس ثروة البلاد واستعباد الفلاحين الذين يحرثون الأرض في القرى، مذكّرا الفلاحين بأنهم يعيشون بلا ماء نظيف للشرب ولا كهرباء ولا عيادات ولا مدارس. لذلك، يجب عليهم أن يثوروا على الظلم.
ولم يتوانَ الحوراني عن زيارتهم في منازلهم وتذكيرهم بضرورة تشبّثهم بالأرض، قائلا لهم: "إن عملتم معي ستكون هذه الأرض لكم!". لقد نصّب نفسه مخلّصا أرسله الله الى الفلاحين في سوريا، الذين كانوا يشكّلون مليوني نسمة من سكان سوريا البالغ عددهم ثلاثة ملايين ونصف المليون.
وفي رأي رئيس الوزراء خالد العظم أن الحوراني وعد "بملء بطون المزارعين الفارغة" بوعود بملكية الأراضي. وعصفت حملته "الأرض لمن يعمل بها" بالبلاد عصفا، وردّ الآلاف على صرخاته الحاشدة هاتفين: "أحضروا السلة والمجارف لدفن الآغا والبيك". واستطاع الحوراني أن يحوّل الغضب إلى عنف وشجع أنصاره على حرق المحاصيل ومهاجمة أصحاب الأراضي وجعل القرى مكانا شديد الخطورة على أصحابها إذا دخلوها. وكتبت صحيفة "الفيحاء" الدمشقية اليومية متوجهة الى الحوراني: "كنتَ منذ نعومة أظفارك،تتغذى على الحقد والشرّ وبث الخلاف. تحب اللعب بالنار، حتى ولو حرقت نفسك وشعبك وبلدك".
مع سقوط نظام الشيشكلي في فبراير/شباط 1954، عاد البعثيون الثلاثة عفلق والبيطار والحوراني إلى ديارهم لخوض أول انتخابات برلمانية بعد الشيشكلي. وأصاب حزب "البعث" نجاحا كبيرا بفضل أكرم الحوراني، فحصد سبعة عشر مقعدا من أصل 142 في مجلس النواب. للمقارنة، كانت حصتهم في برلمان عام 1949 مقعدا واحدا فقط. وانتخب الحوراني رئيسا للبرلمان عام 1957، وعُيِّن البيطار وزيرا للخارجية، بينما أصبح بعثي آخر هو خليل الكلاس وزيرا للاقتصاد.
الوحدة السورية المصرية (1958 - 1961)
دعم عفلق والبيطار والحوراني بكل إخلاص الوحدة بين سوريا ومصر في فبراير/شباط 1958، وكُلف البيطار التفاوض على شروط الوحدة مع الرئيس عبد الناصر. وعندما سأل الزعيم المصري عن شروط سوريا للوحدة، أجاب صلاح البيطار: "ليس لدينا شروط يا سيادة الرئيس". وكانت هذه الإجابة الأقل حصافة التي يمكن لأي مسؤول أن يجيب بها. بهذه العبارة المنفردة، أعطى البيطار عبد الناصر القدرة الكاملة على ابتلاع سوريا سياسيا واقتصاديا وعسكريا. على عكس البيطار، كان لدى الزعيم المصري الكثير من الشروط ليمليها على السوريين، فقد أراد التخلّص من الأحزاب السياسية وفرض رقابة صارمة على الصحافة، وطالب بعزل الضباط المسيسين من الجيش السوري وتعليق العمل بالدستور السوري وحل مجلس النواب. كما أراد أن يجري توقيع ميثاق الاتحاد في مصر، بعد أن ينتقل البرلمان السوري بأكمله إلى القاهرة لكي يحصل على شرعية إضافية. وأخيرا، أراد أن تكون العاصمة القاهرة بدلا من دمشق. وعندما قامت الوحدة أخيرا بين البلدين، عُيّن البيطار وزيرا للثقافة بينما صار الحوراني نائبا لرئيس الجمهورية العربية المتحدة.
وسرعان ما اختلف الرجلان مع عبد الناصر واستقالا من منصبيهما، وكانا من بين أول من دعم انقلاب الانفصال في 28 سبتمبر/أيلول 1961 (وهو عمل سيعربان عن ندمهما عليه لاحقا). في عهد الوحدة، شكّلت مجموعة من الضباط البعثيين المتمركزين في القاهرة لجنة عسكرية للدفاع عن الدولة الفتية من أعدائها الكثيرين، ضمت حافظ الأسد وصلاح جديد من بين آخرين، وقد اعتقلهم عبد الناصر لكونهم سوريين بعد ساعات من انقلاب 28 سبتمبر/أيلول 1961، لكن جرى تسريحهم من الجيش السوري بتهمة تأييدهم لعبد الناصر، بعد إطلاق سراحهم وعودتهم إلى دمشق.
8 مارس/آذار 1963
ثأر أعضاء اللجنة العسكرية في 8 مارس/آذار 1963، لأنفسهم، حين شاركوا في الانقلاب الذي أطاح حكومة الانفصال. وصار حافظ الأسد، وهو في الثالثة والثلاثين، قائدا للقوات الجوية السورية بينما تولى صلاح جديد رئاسة الأركان في يوليو/تمّوز.
أما أكرم الحوراني فكانت علاقاته قد توتّرت مع ضباط المجلس العسكري، فطُرد من الحزب ونُفي، ولم يعد إلى الوطن مطلقا. فمات في المنفى عام 1996. وعُيَّن صلاح البيطار رئيسا للوزراء بينما ظل عفلق في منصبه كسكرتير عام للحزب، وقد أشيد به باعتباره "المرشد الروحي" لدولة "البعث" أو "عرابها". وأطلق ضباط المجلس العسكري مع البيطار ثورة اجتماعية سياسية في سوريا، قاطعين مع الماضي بكل الطرق الممكنة.
وشهد عهدهم، في يناير/كانون الثاني 1965، إغلاق الصحف المستقلة وإنهاء جميع الأحزاب السياسية ومصادرة الممتلكات وإعادة توزيع الثروة وتأميم المصارف والمدارس الخاصة وأكثر من 220 مصنعا. واختير ضابط ناصري يبلغ من العمر 37 عاما هو الفريق لؤي الأتاسي لرئاسة مجلس قيادة الثورة، لكنه لم يبق طويلا، فاستقال في يوليو/تمّوز، بعد طرد الضباط الناصريين من الجيش لمحاولتهم القيام بانقلاب ضد البعثيين.
وأنشئ بعدها مجلس رئاسي من أربعة رجال، برئاسة الفريق أمين الحافظ. كان الحافظ أحد مريدي عفلق، وبقي في منصبه حتى إطاحته، هذه المرة على يد صلاح جديد، في 23 فبراير/شباط 1966. ونُفي عفلق والبيطار، بينما أُرسل أمين الحافظ إلى السجن، حيث بقي حتى عام 1967. ثم نُفي إلى العراق فمنحه صدام حسين حق اللجوء. وكان صدام يقود الجناح العراقي من حزب "البعث" المنافس للبعث السوري، منذ 1968، في البداية بصفته نائب الرئيس في عهد أحمد حسن البكر ثم رئيسا اعتبارا من يوليو/تموز 1979.
صدّام والبعثيون السوريون
تأسس الفرع العراقي للحزب في وقت مبكر من عام 1951. وكما هي الحال في سوريا، جذب الحزب أعضاء من الطبقة الوسطى والجنود والضباط المتحمسين في الجيش العراقي. وفي فبراير/شباط 1963، شارك "البعث" العراقي في انقلاب أطاح عبد الكريم قاسم وقتله، ونصّب عبد السلام عارف رئيسا للبلاد.
وبينما لم يكن عارف نفسه بعثيا، كان رئيس وزرائه احمد حسن البكر عضوا في "البعث" العربي. وفي عام 1968، أصبح البكر رئيسا للعراق، وبقي في منصبه حتى أطاحه صدام حسين، الذي حكم حتى عام 2003. خلال تلك السنوات، كان صدام حريصا كلّ الحرص على الترحيب بالبعثيين السوريين الذين اختلفوا مع رفاقهم في دمشق. وكان من أبرز الأسماء في القائمة أمين الحافظ، الذي ظل في بغداد حتى عام 2003، وميشال عفلق، الذي استقرّ في البداية في بيروت، قبل أن ينتقل إلى العراق حيث استقبل على البساط الأحمر، وجرى الترحيب به باعتباره مؤسس الحزب الحاكم. وتزامن تكريمه في بغداد مع شطب رفاقه في سوريا اسمه من كل أدبيات "البعث"، فكأن الحزب لم يعرف رجلا اسمه ميشال عفلق. وحُكم عليه وعلى البيطار بالإعدام غيابيا بتهمة التآمر ضد الحزب الذي أسساه. أما البيطار فاختار باريس منفى دائما له، حيث قاد مجموعة من البعثيين المنفيين حتى اغتيل بالرصاص في عام 1980، بينما عاش عفلق بعده تسع سنوات أخرى.