لم يكن قرار روسيا في 21 فبراير/شباط الماضي تعليق العمل بمعاهدة "ستارت الجديدة" إلا مؤشرًا جديدًا إلى أن أيدي قادة الدول النووية صارت أقرب إلى الأزِرة المرعبة أكثر من أي وقت مضى منذ أزمة الصواريخ في كوبا عام 1962. قد لا تكون ثمة علاقة مباشرة بين ذلك القرار ومرور عام كامل على الحرب في أوكرانيا.
ولكن أهم ما غيرَّته هذه الحرب أنها جعلت العالم أشد توترًا واحتقانًا، ورفعت السلاح فوق السياسة، ووضعت احتمال حدوث صدام نووي على الطاولة. ومؤدى هذا كله، وغيره، اشتداد سباق التسلح وبلوغه ذروة غير مسبوقة منذ عقود.
لا يقتصر هذا السباق على التسلح النووي، الذي ظل تحت السيطرة منذ ثمانينات القرن الماضي وحتى منتصف 2022. سباق التسلح التقليدي أيضًا دخل مرحلة جديدة غير مسبوقة، في أحد أبعادها، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فقد عادت ألمانيا واليابان إلى هذا السباق، وبقوة، بعد إخراجهما منه قبل ما يقرب من ثمانية عقود.
انفلات السباق النووي مُجدَّدًا
كان استئناف سباق التسلح النووي متوقعًا منذ أن فتحت الحرب في أوكرانيا الباب أمام احتمالات كانت مستبعدة قبلها. ومن بينها احتمال حدوث صدام نووي في حالة توسع نطاق هذه الحرب وتجاوزها حدود أوكرانيا. وليس هذا احتمالاً ضعيفًا عندما نتأمل الخطاب الرسمي الروسي، الذي يربط استخدام السلاح النووي بما يُطلق عليه "تهديد وجودي"، مع توسع شديد في تفسير هذا التهديد.
وربما يكون تعليق العمل بمعاهدة "ستارت الجديدة" إطلاقًا ضمنيًا لهذا السباق لأنه يُحرَّر طرفيها من قيود ألزمتهما بتخفيض الحدود القصوى للرؤوس النووية الحربية الهجومية العابرة للقارات بنسبة 30%، والحدود القصوى لأنظمة إطلاقها بنسبة 50%، وبالتعاون في ضبط التسلح النووي عن طريق السماح بعمليات تفتيش متبادل للتحقق من استمرار الالتزام بها.
وقد بقيت تلك القيود عائقًا أمام استئناف سباق التسلح النووي رغم وقف عمليات التفتيش فعليًا منذ مارس/آذار 2020 بسبب جائحة "كوفيد-19". وحال احتقان الأجواء السياسية عقب نشوب الحرب دون استئناف عمليات التفتيش. وجاء قرار تعليق العمل بالمعاهدة بكل بنودها، فدَّعم توقعاتٍ بأن سباق التسلح النووي سيُستأنف.
وربما لم يكن حدثًا معزولاً، والحال هكذا، إجراء كوريا الشمالية ثلاث تجارب صاروخية لدعم قدراتها النووية منذ مطلع العام الجاري، وإعلان رئيسها كيم جونغ أون أنها بصدد تحقيق زيادة وصفها بأنها هائلة في ترسانتها النووية وأنظمتها الصاروخية العابرة للقارات. والأمر اليوم جدُ لا مزاح فيه، بخلاف ما حدث بين الرئيس السابق ترامب وكيم جونغ أون في مطلع 2018 عندما تباهى الأول بأن زره النووي أقوى بكثيرٍ مما لدى الثاني.
وصار متوقعًا في هذا السياق أن تزداد أعداد الرؤوس النووية الحربية في العالم فى الأشهر المقبلة، بعد 32 عامًا من الانخفاض الطفيف. ويُقدَّر إجمالي هذه الأعداد بحوالي 12 ألفا وسبعمائة حول العالم، وتملك روسيا وأميركا نحو 90% منها، بواقع نحو 6000 للأولى و5500 للثانية تقريبًا. وسيكون السباق لزيادتها سريعًا، إذ أن لدى كل من الدولتين برامج مكثفة لتحديث واستبدال الرؤوس النووية المُخزَّنة وأنظمة إطلاقها ومنشآت إنتاجها.
كما أن لدى الدول السبع الأخرى، التي تملك أسلحة نووية، أنظمة للتطوير والتجديد والتوسع، وفي مقدمتها الصين التي رفضت مراتٍ الانضمام إلى معاهدات ضبط التسلح النووي، ومن بينها"ستارت الجديدة". ويُقدَّر تقرير معهد استوكهلم الدولي للسلام "سيبري" عدد الرؤوس النووية المتوقع أن تملكها الصين عام 2030 بحوالي ألف رأس، بعد أن كان في حدود المائتين عام 2011. غير أن الصين تصر على أن سياستها النووية لا تندرج في مجال سباق التسلح، ولا تهدف إلا إلى الدفاع عن النفس.
كان استئناف سباق التسلح النووي متوقعًا منذ أن فتحت الحرب في أوكرانيا الباب أمام احتمالات كانت مستبعدة قبلها. ومن بينها احتمال حدوث صدام نووي في حالة توسع نطاق هذه الحرب وتجاوزها حدود أوكرانيا. وليس هذا احتمالاً ضعيفًا عندما نتأمل الخطاب الرسمي الروسي، الذي يربط استخدام السلاح النووي بما يُطلق عليه "تهديد وجودي"
وهكذا، يبدو أن أيدي قادة الدول الكبرى صارت قريبةً جدا من الأزرة التي لا يُذكر أي منها إلا ذكرَّ بأن ضغطةً عليه قد تحمل دمارًا شاملاً.
تسارع التسلح التقليدي
يُقاس المدى الذي يبلغه سباق التسلح التقليدي بحجم الإنفاق على صناعة الأسلحة في العالم. ولم يتوافر بعد تقدير دقيق لحجم هذا الإنفاق في 2022، بانتظار إصدار تقريري "التوازن العسكري" عن المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية بلندن، و"سيبري" عن المعهد السويدي لأبحاث السلام.
لكن الأكيد أن هذا الإنفاق ازداد في العام المنصرم، وسيزداد أكثر في السنة الجارية، بعد أن أصبحت الأيدي على الأزندة في الدول المنخرطة في حرب أوكرانيا، و في صراعاتٍ تُنذر بانفجارات مُسلَّحة في مناطق عدة.
ومن الطبيعي أن تعبئ روسيا أقصى إمكاناتها لتعويض الأسلحة والقذائف التي استخدمتها في الحرب، بعد استنفاذ الكثير منها ولجوئها إلى شراء طائرات مُسيَّرة من إيران، وأن تسعى إلى حل أزمة وقف وارداتها من مكَّونات بعض الأسلحة بفعل العقوبات الغربية عليها. وتوسعت، في المقابل، صناعة الأسلحة في الولايات المتحدة ودول غربية عدة لإمداد أوكرانيا بمعدات وقذائف تحتاجها، أو لتلبية الطلب غير المسبوق في الأسواق نتيجة قرار كل من ألمانيا واليابان تكبير جيشها.
وربما تكون عودة الدولتين إلى سباق التسلح التقليدي هي التطور الأكثر أهمية في سوق السلاح التقليدي. فكانت ألمانيا قلَّصت جيشها وتسليحها إلى أقل من النصف منذ نهاية الحرب الثانية. وها هي تعود بقوة شديدة عبر تعديل دستوري أُجري في يونيو/ حزيران الماضي للسماح بإنشاء صندوق بمائة مليار يورو لزيادة موازنتها العسكرية، سعيًا لأن يكون جيشها الأكبر في أوروبا خلال سنوات.
ومضت اليابان في الاتجاه نفسه منذ أغسطس/ آب الماضي، عبر إعادة تفسير دستورها الذي يفرض أن تكون قدراتها العسكرية لأغراض دفاعية، بما يتيح زيادة الإنفاق على التسلح إلى نحو 300 مليار دولار.
ولم تتخلف الصين عن هذا الاتجاه، إذ زيدت موازنتها العسكرية بنسبة 7.1%، لتتمكن من دعم جاهزية قواتها، والتوسع في إنتاج الأسلحة الجوية والبحرية التي تركز عليها في الوقت الراهن.
وهكذا تفيد مؤشرات رقمية ونوعية أن سباقي التسلح النووي والتقليدي يتسارعان في آن معًا، الأمر الذي قد يجعل المرحلة الراهنة هي الأخطر في العالم إما منذ نهاية الحرب الباردة، أو منذ أزمة الصواريخ في كوبا، أو منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، حسب الزاوية التي ينظر منها كلُ منا.